مع استمرار المعارك العنيفة في إثيوبيا ودعوة العديد من الدول رعاياها إلى مغادرة البلاد في أسرع وقت، يعتقد بعض المحللين أن الأوان قد فات لتجنب حرب أهلية شاملة في إثيوبيا، لكن مبعوث الولايات المتحدة للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان يعتقد أن هناك تقدماً ناشئاً حدث خلال جولته الأخيرة لعقد مفاوضات تهدف كمرحلة أولى إلى وقف إطلاق النار. فهل تمتلك واشنطن من النفوذ وأوراق الضغط على الأطراف المتحاربة ما يكفي لإحلال السلام وإنقاذ إثيوبيا من التفكك والانهيار، أم أن تطور المعارك سيزيد من تعقيد الأزمة ويوصلها إلى نقطة اللاعودة؟
بصيص ضوء
بمجرد وصوله إلى واشنطن بعد لقاءاته الأخيرة مع أطراف الصراع الإثيوبي، لم يخفِ فيلتمان خشيته من ازدياد الأمر سوءاً في إثيوبيا وانقطاع عمليات توريد السلع والاحتياجات في البلاد وقطع الاتصالات واضطراب حركة السفر، وهو السبب الذي دفع الولايات المتحدة ومن بعدها فرنسا وبريطانيا وألمانيا والنمسا إلى دعوة رعاياها إلى مغادرة البلاد فوراً. غير أن فيلتمان ما زال يلتمس بصيصاً من الضوء في إمكانية التفاوض، خصوصاً أن كلاً من الحكومة الفيدرالية برئاسة آبي أحمد، و"جبهة تحرير شعب تيغراي"، كانا يتحدثان معه عن العناصر التي تود أن تراها على طاولة المفاوضات، حتى لو كانت عبر عملية سلام سرية. ما يعني أن كلاً من الطرفين لا يستبعد الآخر على الرغم من تصريحاتهما العدائية المعلنة.
لا حل عسكرياً
ويبدو أن الدبلوماسي الأميركي المخضرم لم يقطع الأمل، فهو مقتنع بأنه لا يوجد حل عسكري للصراع. وأبلغ "جبهة تحرير شعب تيغراي" أن الوضع الآن مختلف عما كان عليه عام 1991 عندما قادت الجبهة تجمعاً من الأحزاب والفصائل التي تحظى بالشعبية، لإسقاط نظام الرئيس منغستو هايلي ماريام، وأن أي محاولة لاقتحام العاصمة أديس أبابا ستواجه مقاومة عنيفة لا هوادة فيها. ولهذا فهو مطمئن إلى أن قادة "جبهة تحرير شعب تيغراي" يدركون أن دخول العاصمة يمكن أن يكون كارثياً عليهم، وأنهم لا يريدون أن يكونوا مسؤولين عن انهيار إثيوبيا.
مع ذلك، فإن ما تخشاه إدارة الرئيس جو بايدن هو أنه لا توقف "جبهة تحرير شعب تيغراي" تقدمها نحو العاصمة التي كانت تحكمها قبل أن يتولى آبي أحمد السلطة عام 2018، لأن سقف مطالبها المحدود الآن من المتوقع أن يزداد كلما اقتربت منها. ما سيعقد مسار المفاوضات. كما أن أكبر المشكلات هي اعتقاد كل طرف أنه قادر على النصر وتحقيق أهدافه بالقوة العسكرية. الأمر الذي سيزيل التقدم الهش في التوافق على عقد مفاوضات لخفض التصعيد.
عقبة الشكوك
لكن، على الرغم من إعلان فيلتمان أن آبي أحمد راغب في الحديث عن تفاصيل جهوده الدبلوماسية، فإن الحكومة الإثيوبية تتشكك الآن في درجة أكبر حيال الدور الأميركي، وتتهمه بالانحياز لمصلحة جبهة تيغراي. فقد انتقدت الحكومة تحذير واشنطن مواطنيها من إمكانية حدوث تفجيرات في أديس أبابا، واعتبرت ذلك سبباً رئيساً لإثارة الذعر في العاصمة والإضرار بوضع القوات الحكومية في الصراع، على الرغم من مطالبة الإدارة الأميركية بوقف هجوم جبهة تيغراي وتأييدها ضرورة انسحاب قوات تيغراي وحلفائها من إقليمي أمهرة وعفار اللذين سيطرت على أجزاء واسعة منهما في شمال البلاد.
وما يضخم من هذه الظنون أن الرئيس بايدن هدد بإخراج إثيوبيا بحلول مطلع العام المقبل، من برنامج التجارة التفضيلية الذي يعد جزءاً من قانون النمو والفرص الأفريقي بسبب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال هجوم القوات الحكومية على إقليم تيغراي. وجربت واشنطن بالفعل نهجاً عقابياً آخر، حين فرضت قبل أسابيع عقوبات على قوة الدفاع الإريترية التي شاركت القوات الإثيوبية في الهجوم على تيغراي.
غير أن التدهور السريع في مسار الحرب وعدم انصياع آبي أحمد لمطالبات واشنطن بالتهدئة، دفعاها إلى إدانة سلوك إثيوبيا في الحرب، وإلى تعليق معظم المساعدة الأمنية للبلاد، والسماح بفرض عقوبات على المسؤولين الذين تعتقد الولايات المتحدة أنهم يؤججون نيران الصراع في تيغراي.
نفوذ محدود
وعلى الرغم من محاولة إدارة بايدن إطلاق عملية سلام للتوصل إلى حل وسط يبدأ بوقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار ووصول المساعدات الإنسانية من دون عوائق إلى تيغراي والأقاليم الأخرى المتضررة من الحرب والتي لم يصل إليها سوى 12 في المئة من المساعدات، والشروع بعد ذلك في حوار وطني شامل، فإن الأطراف لم تقبل في العلن هذه الشروط. ما خلف انطباعاً بأن الولايات المتحدة لم يعد لديها سوى نفوذ محدود على الأطراف التي تنظر الآن إلى الصراع من منظور وجودي، في ظل الانتهاكات البشعة التي ارتكبها الجميع، وحالة الاستقطاب الشديدة، وشعور كل طرف بأنه ضحية لانتهاكات الطرف الآخر.
وعلى الرغم من أن الأهمية التي توليها الولايات المتحدة لإثيوبيا، وظلت تدعم حليفها آبي أحمد منذ أن تولى السلطة عام 2018، كما تتعاون مع أديس أبابا كمحور تقليدي للأمن والاستقرار في منطقة القرن الأفريقي الاستراتيجية وجنوب البحر الأحمر وباعتبارها المقر الدائم للاتحاد الأفريقي وثاني أكبر بلد أفريقي من حيث عدد السكان (119 مليون نسمة)، إلا أن مواقف روسيا والصين المساندة للحكومة الإثيوبية تحد من هذا النفوذ الأميركي في الوقت الراهن على الأقل. وهو ما تبين بشكل واضح في رفض بكين وموسكو مشروع قرار تقدمت به إيرلندا في مجلس الأمن يدعو إلى وقف إطلاق النار.
فرصة للنجاح
مع ذلك، قد تكون هناك فرصة للدبلوماسية للنجاح على الرغم من أن القوات في ساحة المعركة والقادة السياسيين في إثيوبيا لا الدبلوماسيين الأجانب هم من سيحددون في نهاية المطاف نتيجة الصراع، إذ يمكن للولايات المتحدة أن تساعد في إرساء السلام من خلال تسهيل المحادثات بين الأطراف التي لا تثق في بعضها البعض، وتقديم المساعدة الفنية عند الحاجة، بما في ذلك مراقبة وقف إطلاق النار النهائي، وتقديم إرشادات بشأن التسلسل المحتمل لعملية السلام المستقبلية التي يمكن أن تساعدها في البقاء على المسار الصحيح.
الانزلاق إلى الفوضى
لم يكن انزلاق إثيوبيا في حرب أهلية مفاجئاً للولايات المتحدة، فإلى جانب محاولات آبي أحمد للإصلاح، شهدت السنوات الأولى لحكمه تصعيداً سريعاً للعنف السياسي من اغتيالات واشتباكات مسلحة بين قوات الأمن الإقليمية وهجمات مميتة من قبل الميليشيات العرقية، فضلاً عن حملة واسعة قادها لمكافحة التمرد في أجزاء من إقليم أوروميا الذي يعد أكبر الأقاليم من حيث عدد السكان (35 مليون نسمة)، ويشكل 34.4 في المئة من سكان إثيوبيا. ما أدى إلى نزوح داخلي واسع النطاق. وكان كل ذلك قبل اندلاع الحرب العام الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحتى قبل الحرب، كان لا يزال إقليم تيغراي مستقراً تحت سيطرة "جبهة تحرير شعب تيغراي" القوية، لكن العلاقات بين المسؤولين الإقليميين في تيغراي وحكومة آبي أحمد تدهورت بشكل مطرد عام 2020، إذ انخرط الجانبان في سياسات استفزازية سببتها محاولات آبي أحمد تقليص نفوذ قادة تيغراي الذين حكموا إثيوبيا على مدى 27 عاماً، ومع حشد القوات الإثيوبية والقوات الحليفة لها على حدود تيغراي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، شنت "جبهة تحرير شعب تيغراي"، ما وصفته بضربة وقائية ضد القيادة الشمالية للجيش الإثيوبي، وسرعان ما صنفت أديس أبابا الجبهة كمجموعة إرهابية، وأعلنت نيتها تدميرها. ما أدى إلى اندلاع حرب عنيفة، تميزت بالتجويع المتعمد عبر قطع إمدادات الغذاء إلى تيغراي، واستخدام أساليب العنف الجنسي، وعمليات النهب المنهجي، والهجمات على المدنيين واللاجئين.
وبينما بدا في البداية، أن قوات آبي أحمد لها اليد العليا حين استولت القوات الحكومية على ميكيلي، عاصمة تيغراي، ومدن أخرى في المنطقة وأجبرت "جبهة تحرير شعب تيغراي" على الانسحاب إلى الجبال، إلا أن ذلك لم يستمر طويلاً، ففي يونيو (حزيران) 2021، شن متمردو تيغراي، الذين أعادوا تنظيم صفوفهم تحت اسم قوات دفاع تيغراي، هجوماً مضاداً واستعادوا ميكيلي. وفي نوفمبر الحالي، تقدمت قوات دفاع تيغراي إلى الجنوب، نحو عمق إقليم أمهرة ووصلت قرب ديسي، وهي بلدة استراتيجية على الطريق السريع الرئيس المؤدي إلى أديس أبابا. وانتشر الذعر في العاصمة، وأعلن آبي أحمد حالة الطوارئ، وأمر باعتقالات جماعية لأبناء تيغراي، وتوجه إلى جبهة القتال لقيادة القوات الإثيوبية.
صراع متعدد
لكن هذا الصراع المستمر كان متعدد الأطراف منذ البداية، وأصبح أكثر تعدداً وقوة مع مرور الوقت، فإضافة إلى الصراع الرئيس بين قوات الدفاع عن تيغراي من جانب والحكومة الإثيوبية من جانب آخر، تورطت قوات من إريتريا وإقليم أمهرة في الحرب إلى جانب القوات الحكومية. وشاركت ميليشيات محلية عدة في أعمال عنف وتطهير عرقي. وعلى الرغم من أن جميع الأطراف ارتكبت انتهاكات بشعة، فإن مراقبي حقوق الإنسان انتقدوا باستمرار انتهاكات القوات الإريترية والحكومية الإثيوبية وقوات الأمن الإقليمية من إقليم أمهرة، بحسبما يشير تيرينس ليونز، أستاذ تسوية الصراعات في مركز جيمي وروزالين كارتر في جامعة جورج ميسون الأميركية.
وفي الآونة الأخيرة، غيرت "جبهة تحرير أورومو" المتمردة مسار الصراع بشكل كبير، فبعدما ظلت تقاتل الحكومة الإثيوبية منذ عام 2018، في عمليات اقتصرت غالباً على غرب أوروميا، وقعت الجبهة في أغسطس (آب) الماضي، مع قوات الدفاع عن تيغراي اتفاقية للتعاون في كفاحهما ضد حكومة آبي أحمد. ففي حين أن الحركتين لهما تاريخ مشترك من العداء وأهداف مختلفة للغاية تتجاوز إسقاط حكم آبي أحمد، إلا أن تحالفهما، مهما كان قصيراً، يمكن أن يشكل تهديداً قاتلاً للحكومة في أديس أبابا. فقد بدأت "جبهة تحرير أورومو" التحرك شرقاً إلى جنوب أمهرة، وذكرت تقارير أنها دخلت بلدة كيميسي، جنوب المواقع التي تسيطر عليها قوات الدفاع عن تيغراي مباشرة. ولم يتضح إذا ما كانت الجماعات المتمردة تخطط للتقدم إلى العاصمة أو إذا ما كانت ستنجح إن حاولت ذلك. ولكن، حتى لو بقيت في مكانها، فإنها ستكون في وضع يسمح لها بتهديد الطريق السريع الذي يربط أديس أبابا بميناء جيبوتي، وهو شريان حياة حيوي لإثيوبيا غير الساحلية. بالتالي، قد تكون الجبهة قادرة على إملاء شروط أصعب في أي تسوية سلمية محتملة في المستقبل.
الطريق إلى السلام
وفي أعقاب هذا التصعيد المفاجئ، كثفت الولايات المتحدة جهودها الدبلوماسية، إذ سافر وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى كينيا المجاورة وكرر دعواته للتحقيق والمساءلة في ما جرى داخل إثيوبيا من انتهاكات في الوقت الذي واصل فيلتمان ونظيره من الاتحاد الأفريقي، الرئيس النيجيري السابق أولوسيغون أوباسانجو، القيام بدبلوماسية مكوكية بحثاً عن سبل لوقف الاقتتال.
وعلى الرغم من أن احتمالات السلام لا تزال ضئيلة، فإن هناك كثيراً مما يمكن للولايات المتحدة القيام به للمساعدة في تقريب الأطراف المختلفة من التوصل إلى اتفاق، إذ تعد الأولوية الأكثر إلحاحاً بالنسبة إلى واشنطن وقف الاقتتال بين الجانبين. وهي تحتاج إلى أن يكون وقف إطلاق النار أكثر فاعلية عندما يتم التفاوض عليها لتحديد شروط مفصلة بشأن النطاق الجغرافي لكل طرف، وإلى أين يمكن أن تنسحب قوات كل جانب، وطرق مراقبة وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى، واستئناف الاتصالات وخطوط النقل.
ويطالب موقع "فورين أفيرز" الأميركي الولايات المتحدة بالضغط من أجل مشاركة جميع الأطراف في اتفاقية وقف إطلاق النار حينما تجتمع الأطراف للتفاوض، وأن يتم تنفيذ وقف إطلاق النار على مراحل، بحيث يمكن تتبع عودة القوات المتحاربة إلى ثكناتها على خطوات تقل فيها المخاطر، مع تقديم واشنطن المساعدة الفنية للأطراف المتصارعة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بمراقبة وقف إطلاق النار.
ولأن المشاركة في المفاوضات تُعد من أصعب النقاط، لأن المشاركة تمنح درجة من الشرعية للمشاركين في حين يصبح المستبعدين أحياناً أداة لتعطيل الاتفاقات، فإن إدراج المعارضين الأورومو في محادثات السلام قد يكون أمراً مثيراً للجدل. لكن، من الواضح أن "جبهة تحرير أورومو" هي فاعل عسكري مهم وطرف أساس في المعادلة. وإذا تم استبعاد هذه الأطراف من اتفاقية وقف إطلاق النار أو أي مفاوضات لاحقة للتوصل إلى تسوية سياسية، فمن المرجح أن يستنتج العديد من الأورومو أن الكفاح المسلح هو السبيل الوحيد لسماع صوتهم وتحقيق أهدافهم. لذلك، يجب على الولايات المتحدة أن توصي بدعوة قادة الأورومو للانضمام إلى المحادثات.
في نهاية المطاف، سيحدد الإثيوبيون أنفسهم وليس الولايات المتحدة مسار الحرب الأهلية في بلادهم، لكن يمكن لواشنطن والاتحاد الأفريقي والمجتمع الدولي المساعدة في تقديم المشورة واستخدام النفوذ المحدود على الأطراف لدفعها نحو السلام.