يتردد صدى أجراس دير نوتردام في جبال الأطلس بالمغرب، الدير الذي يحفظ ذكرى مقتل رهبان تيبحيرين في الجزائر، إذ عاش فيه آخر الناجين من المجزرة، والذي يسعى إلى أن يكون نقطة التقاء بين الأديان.
ويقع الدير فوق هضبة على مشارف مدينة ميدلت في منطقة جبلية تعلوها قمة جبل العياشي المغطاة بالثلوج، ويحيط به سور طيني عالٍ من برجين وأسقف خشبية.
وعاش فيه الراهب جان بيار شوماخر، آخر الناجين من الحادثة المأساوية التي وقعت عام 1996 بالجزائر، وتوفي ودفن فيه هذا الأسبوع عن عمر ناهز 97 سنة.
علاقة الدير بمحيطه
بُني المعبد الذي يعيش فيه حالياً أربعة رهبان، وفق المواصفات المعمارية المحلية البسيطة والقائمة على الطين والخشب، في المنطقة الأمازيغية الفقيرة.
أما قطع أثاثه الخشبية، فمنحوتة من أشجار جبال الأطلس، بينما نسجت زرابيه على الطريقة التقليدية في القرى المجاورة، وقد كُتب عليها بالفرنسية "كنيسة ميدلت".
ويقول الراهب الإسباني خوسيه لويس وهو يتجول في باحة الدير، "يجسد هذا المكان صورة البيئة المحيطة به، كذلك الأمر بالنسبة إلى علاقاتنا مع الجيران. من المهم إقامة علاقات مع الآخرين بغض النظر عن ديانتهم أو هويتهم وثقافتهم".
وأسست راهبات فرانسيسكينيات دير ميدلت في عشرينيات القرن الماضي، قبل أن يلتحق بهن الرهبان "الترابيست السيسترييون" عام 2000، بمن فيهم الناجيان الوحيدان من مأساة تيبحيرين، وهما جان بيار شوماخر وأميدي نوتو.
ويقول إسماعيل (48 سنة)، وهو أحد جيران الدير ويعمل أحياناً سائقاً لرهبانه وضيوفهم، "نشأت هنا مخالطاً الراهبات ثم الرهبان. تربطنا بهم علاقات متينة منذ زمن بعيد، ولم أشعر يوماً بأي فروق بيننا".
حادثة تيبحيرين
وبينما تفترض القواعد المعمول بها عادةً لدى الرهبان السيستريين العيش بمسافة عن محيطهم، إلا أن رهبان دير ميدلت يعيشون من دون حدود تعزلهم عن جيرانهم.
وتقول حياة وهي ثلاثينية تسكن قرية عثمان أوموسي المجاورة، "كان هناك دائماً تفاهم بين المسيحيين والمسلمين في المنطقة، وسيظل قائماً".
ومن صور هذا التقارب حضور نحو 15 شخصاً من سكان القرية الثلاثاء مراسم تشييع الراهب شوماخر، الذي دفن في قبر بالدير تحيطه أشجار السرو. وكان الناجي الآخر من الحادثة أميدي نوتو توفي في فرنسا عام 2008.
وفي عام 1996، خُطف سبعة رهبان من رفاق شوماخر في دير نوتردام الأطلس ببلدة تيبحيرين في الجزائر. وعثر عليهم بعد شهرين قتلى وقد قطعت رؤوسهم، وذلك في عز سنوات العشرية السوداء التي أدمت هذا البلد، من دون أن تتضح كلياً ملابسات الحادثة.
وأعلنت جماعة دينية مسلحة مسؤوليتها عن المذبحة، لكن الشكوك لا تزال قائمة حول احتمال تورط الاستخبارات العسكرية الجزائرية فيها.
وغداة الحادثة، رحل الناجيان الوحيدان إلى دير في مدينة فاس، العاصمة الروحية للمغرب، قبل أن ينتقلا إلى دير ميدلت الذي نُقل إليه دير تيبحيرين وصار يُسمّى بـ"نوتردام الأطلس".
"بين الجيران ليست هناك حدود"
ولا تزال ذكرى الرهبان الذين قضوا في تيبحيرين حاضرة بقوة في ميدلت حيث أقيم لهم نصب تذكاري. ويقول الكاردينال كريستوبال لوبيز الذي شارك في جنازة شوماخر، "من المهم أن تستمر ذكراهم حية في واحة السلام هذه".
ويضم الفضاء التذكاري الذي افتتح عام 2019، أغراضاً شخصية للرهبان الضحايا، وصورهم وملصقات لمقالات صحافية حول الحادثة، وطوابع وهاتفاً كلها كانت تستعمل في تيبحيرين.
وإضافة إلى مناسك التعبد، يستقبل رهبان ميدلت أيضاً حجاجاً آتين في الغالب من أوروبا والولايات المتحدة بحثاً عن لحظات سكينة. ويضم غرفاً تحتضن حتى 20 زائراً.
ويقول الراهب خوسيه لويس مبتهجاً، "في الغالب تكون لزوارنا فكرة مسبقة عن سكان المنطقة، لكنهم يغيرون نظرتهم إليهم عند نهاية إقامتهم هنا. بين الجيران ليست هناك حدود".
وبينما يُعرف الرهبان الترابيست بصناعة البيرة (الجعة) في أديرتهم، يفضل رهبان ميدلت عصير التفاح الطبيعي الذي تشتهر به المنطقة.