حظيت الرسامة المكسيكية فريدا كاهلو (1907- 1954) بشهرة عالمية واسعة، رغم حياتها القصيرة نسبياً، لكونها واحدة من أعظم النساء الملهمات في العالم، فهي حولت آلامها الجسدية والنفسية إلى لوحات تشكيلية نابضة بالحزن والجمال، وقدمت ما يربو على المئة وخمسين لوحة، منها حوالى خمس وخمسين لوحة ذاتية للفنانة نفسها.
فريدا كاهلو تناولت سيرتها وأعمالها نصوصاً وكتباً عدة، منها كتاب الأميركية هايدن هيربرا" فريدا" الذي ترجمه الشاعر العراقي علي عبد الأمير صالح، وصدر عن دار المدى، كما تناولها فيلم أنتجته هوليود باسمها "فريدا" عام 2002 لعبت بطولته النجمة العالمية، من أصول لبنانية، سلمى حايك، وحقق نجاحاً نقدياً وتجارياً كبيراً.
"الفرقة المصرية للرقص المسرحي الحديث"، التابعة لدار الأوبرا، والتي يشرف عليها الفنان اللبناني الرائد وليد عوني، دخلت في مغامرة فنية بتقديمها عرضاً عن حياة فريدا كاهلو، صممته وأخرجته سالي أحمد.
ومثلما كانت حياة الفنانة المكسيكية مفعمة بالخطر دائماً، نفسياً وجسدياً، فإن الإقدام على إنتاج عرض راقص عن حياتها، كان مفعماً بالخطر كذلك، إذ كيف يمكن تجسيد هذه الحياة المحتشدة بالتفاصيل الدقيقة، بكل اضطراباتها وتناقضاتها، من آلام وعشق وخيانات ونجاحات وخيبات، عبر الرقص المسرحي وحسب؟ سؤال راود كل من شاهد العرض ولديه فكرة عن حياة فريدا كاهلو وإنجازها الاستثنائي.
فنانة ملهمة
"لم تجمعنا لغة ولا دين ولا ثقافة، ولكن جمعتنا الإنسانية، وهذا يكفي لأشعر بمعاناتك التي تحولت إلى فن فريد ملهم تجاوز الأزمنة وعبر الحدود وألهم الكثير من الفنانين في العالم، وجعلك أيقونة للفن التشكيلي وللمكسيك... فريدا لك في نفسي مكانة فريدة"، هكذا قدمت المصممة والمخرجة سالي أحمد لعرضها المسرحي الراقص، وهو تقديم يشي، بداية، بمحبة المصممة للشخصية التي تتناولها، وقناعتها بإنجازها الفني، وتقديرها لسيرتها، الأمر الذي ينعكس بالتالي على قراءتها الباطنية لذلك كله. كيف تصوغ رقصاتها، التي لا تجسد حياة الفنانة بشكل تقليدي ومعتاد، بل تجسدها عبر الرقص المسرحي، الذي تقدم من خلاله رؤيتها ووجهة نظرها؟
لوحات كثيرة ومتتالية ذات إيقاع لاهث تضمنها العرض، الذي تم تقديمه على مسرح الجمهورية وسط القاهرة، تخللتها بعض الكلمات المفتاحية التي ربما لجأت المصممة إليها لإحداث نوع من التواصل مع الجمهور، أو للتعليق على حدث بعينه. هذه اللوحات في تتابعها جسدت، وبشكل درامي، سيرة فريدا كاهلو، بدءاً من ولادتها بإعاقة في ساقها، ثم حادث الحافلة الذي تعرضت له في صباها، ونتج عنه بقاؤها في السرير من دون حركة لعام كامل. حينذاك طلبت فرشاة وألواناً وبدأت في الرسم، الذي كان المتنفس الوحيد لتعبها وآلامها ومصدر سعادتها. إلى لقائها بالفنان التشكيلي المكسيكي دييغو ريفيرا الذي صار زوجها في ما بعد، وخيانته لها مع شقيقتها الصغرى، وانفصالهما ثم عودتهما مرة أخرى، وواقعة الإجهاض التي تعرضت لها، وعلاقتها العابرة بالثوري الشيوعي ليون تروتسكي، خلال إقامته بالمكسيك، ومرضها الأخير وبتر ساقها ثم رحيلها.
كل ذلك تم تجسيده عبر الرقص وفق تسلسل درامي، وعلى خلفية لوحات الفنانة التي دخلت هي الأخرى، كجزء فاعل في العرض، في حوار متقن ومحسوب مع ما يتم تجسيده على الخشبة. ففي أحد المشاهد، على سبيل المثال، كانت ترسم راقدة على سرير المرض، وفي عمق المسرح وعلى جانبيه، تم استخدام العمق والجانبين كشاشات عرض، تظهر فيها إحدى لوحاتها، بينما الراقصات بملابس من ألوان اللوحة الحمراء والزرقاء، كأنهن اللوحة ذاتها، يحطن بها، وكأنها في تلك اللحظات العصيبة الباردة تأتنس بفنها وتستمد منه الدفء. وثمة مشاهد تضافرت فيها اللوحات مع الموسيقى مع الرقص لتنتج معنى أو مغزى، بشكل جمالي يخاطب الحواس كلها.
مرونة الأجساد
25 راقصاً وراقصة شاركوا في تقديم هذه اللوحات، في مرونة وانسيابية، هم أساساً راقصو باليه معاصر، يتمتعون بالرشاقة، ويطوعون أجسادهم للتعبير عن اللحظات الدرامية الساخنة التي احتشد بها العرض، وقرأوا مغزاها جيداً.
ولأن الأحداث لاهثة ومتدفقة، فقد لجأت المصممة إلى الاستعانة بأكثر من راقصة لتجسيد شخصية فريدا كاهلو، وهو ما أدى إلى اجتهاد كل منهن في تقديم دورها (ريم أحمد، روان صلاح، رشا الوكيل، رحمة عصام، حبيبة سيد، يمنى مسعد، شيرلي أحمد). ومعهن في أدوار الفتيات: بسنت إيهاب، مرام حسني، ملك ناجي، شيماء، تينا لطيف، ميرنا عماد، شهد محمد، ماهينور أحمد، فرح أحمد، كرمينا، رولا عماد، ولعب عمرو البطريق شخصية دييغو ريفيرا، وكذلك شخصية ليون تروتسكي، ومعه أحمد حمدي، ميدو سمير، مينا ثابت، محمد علي، كريم أسامة، كريم علي، محمد الجمل، عبد الرحمن محمد.
شكل هرمي
تطلب العرض ديكورات بسيطة وذات دلالة (صممها محمد الغرباوي) تتيح مساحة أوسع للراقصين ولا تحد من حركتهم، وفي الوقت نفسه تلعب دوراً جمالياً يضاف إلى العرض. في العمق سلم هرمي الشكل يؤدي إلى مستوى أعلى ويتم استخدامه في عدة لوحات، تعلوه بانوراما تستخدم كشاشة عرض، وبانوهان على الجانبين يستخدمان أيضاً كشاشتي عرض، وبانوهان آخران ينتهيان بشكل هرمي، ربما للربط بين حضارتي البلدين اللذين عرفا البناء الهرمي. فضلاً عن بعض المقاعد وسرير متحرك يستخدم في مشاهد المستشفى، وتكفلت الإضاءة بتشكيل كل هذه القطع بحسب الحالة المراد تجسيدها. وتم استخدام السلايد في مشاهد خيانة الزوج. وأسهمت الإضاءة بشكل واع في التعبير عن اللحظات الإنسانية المضطربة التي عاشتها فريدا. وإن فات المصممة أحياناً استخدام الإضاءة في الانتقال من مشهد إلى آخر، فقد لجأت إلى الإظلام بين لوحة وأخرى، ولو لم يكن سريعاً وخاطفاً لاختل إيقاع العرض، وأصيب المشاهدون بالملل.
ملابس العرض التي صممتها هالة محمود، اهتمت كثيراً بالتفاصيل الدقيقة التي تحاكي البيئة المكسيكية، وفي الوقت نفسه لا تشكل عبئاً على الراقصين. وحرصت على أن تتوافق ألوانها مع ألوان اللوحات المعروضة في كل مشهد، فضلاً عن الإكسسوارات (حسام أحمد ومحمد عبد الرءوف) وتسريحات الشعر (خاصة مع شخصية فريدا) التي ضاهت الواقع تماماً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
العرض فضلاً عن موسيقاه المعدة عن موسيقى مكسيكية الطابع، تضمن غناء حياً مع عزف على العود لمحمد أبو زيد، بمصاحبة آلة الكاخون للعازف وليد عبد الله. وقد جاءت الأغنية التي قدمتها سارة بايزيد منفردة، بمصاحبة العود والكاخون، باللغة الإسبانية، وربما كان من الأوفق تقديمها بالعربية، بخاصة أن العرض يتوجه لجمهور مصري، فضلاً عن أنه استخدم اللغة العربية في الكلمات المفتاحية التي بثها بين ثنايا المشاهد. ربما كان تأثيرها أقوى وأكثر قدرة على إحاطة المشاهدين بشحنة الألم التي تحملها الأغنية.
جاء العرض ممتعاً على مستوى الصورة والفكرة، واستطاع عبر الرقص تقديم صورة شبه كاملة عن حياة فريدا كاهلو الشخصية وأعمالها الفنية، مدعومة بوجهة نظر. واستطاع، وهذا هو الأهم، أن يقرب هذه النوعية من الأعمال من الجمهور، وأن يوسع قاعدة مشاهديها.