لم يلعن التاريخ الديكتاتور الفاشي الإيطالي بقدر ما لعن حليفه الطاغية النازي الألماني، ولئن كنا نعرف أن ثمة اليوم في ألمانيا وخارجها نوعاً من "حنين" إلى هتلر وأيديولوجيته المتطرفة الدموية والقاتلة، فإن مثل ذلك الحنين لا يستشري في المجتمع الإيطالي بشكل صاخب، ويكاد يكون غائباً تماماً خارجها، وتلك بالطبع واحدة من مفارقات التاريخ وغرائبه، وفي هذا السياق يمكن النظر دائماً إلى التعامل مع ذكرى موسوليني على أنها مختلفة عن التعامل مع حليفه، بل لا يخلو الأمر من اهتمام الفنون والآداب المنتجة في إيطاليا خلال السنوات الأخيرة عبر أعمال "تؤنسن" موسوليني ولو بعض الشيء، من دون أن تحسب في خانة الأدب الفاشي، في مقابل أحكام تسم بالنازية مجمل ما يصدر في الألمانية وغيرها متحدثاً عن هتلر من موقع متعاطف.
يد صهيونية في المعمعة
فهل لنا أن نستنتج من ذلك أن هذا الفارق في التعامل يخفي وراءه ذلك الاستخدام الذي يحتاج إلى هتلر باعتبار "جرائمه في حق اليهود" أكثر وضوحاً وإثارة للرعب من جرائم موسوليني في حقهم؟ واضح أن التمسك بهذه الفرضية يحتاج إلى مجلدات وتعمق طويل في استخدام التاريخ لمصلحة الحاضر ليس هنا مكانه، فالمهم هنا هو أن نطل على موسوليني من خلال بعض ما يروى عنه إبداعياً في بلده على الأقل، وربما يفيدنا هنا مثلان راهنان يعودان لأعوام قليلة ويرسمان لـ "الدوتشي" صورة تبدو حتى في سلبيتها "إنسانية" على النقيض مثلاً من تلك الصورة القصوى التي رسمها الكاتب الأميركي الراحل نورمان ميلر الذي ختم حياته وإبداعه بعمل روائي – توثيقي عنوانه "قصر في الغابة"، يروي فيه "طفولة الوحش" الذي كانه هتلر، ويبدو أن الموت منعه من استكماله بجزء أو أجزاء أخرى، والعملان المتعلقان بموسوليني هما من ناحية فيلم لبيلوكيو عنوانه "أن تنتصر" (2009)، وكتاب يضم مذكرات كلاريتا بيتاتشي عنوانه "موسوليني السري يوميات 1932 - 1939" الذي صدر عام 2010.
وإذ ندرك أن كلاريتا هذه كانت المرأة الأخيرة في حياة موسوليني هي التي تؤرخ صورتها معلقة إلى جانبه ميتين عند نهاية الحرب علاقتهما، والفصل الأخير من حكاية الدوتشي، لا بد من أن نبادر إلى القول أن فيلم "أن تنتصر" نفسه يدور حول امرأة أخرى عرفتها حياة موسوليني العاطفية، إيدا دالسر.
حكاية عائلية لا أكثر
وعلى هذا النحو، إذ يتعامل العملان مع حياة ذلك الديكتاتور العاطفية أكثر من تعاملهما مع جرائمه وفاشيته، يبرزان من دون شك جانباً إنسانياً فيه ولو من موقع الإدانة كما أشرنا، ولو أن البعد السلبي في تلك الإدانة جاء مخففاً، ولنبدأ هنا من الفيلم الذي تنطلق أحداثه من العام 1907 مع إيدا دالسر الصبية وهي تستمع إلى خطاب لمناضل اشتركي وصحافي شاب هو موسوليني الذي كان حينها رمزاً من رموز اليسار الإيطالي كعضو في الحزب الاشتراكي.
في ذلك الحين كان وسيماً وخطيباً مفوهاً يدافع عن المحرومين والعمال مناهضاً كل حرب، وهو الموقف الذي سيتبدل لديه عند اندلاع الحرب العالمية الأولى وخوض إيطاليا لها، مما تسبب في طرده من الحزب الاشتراكي الذي سيتحول قريباً إلى حزب شيوعي، في وقت يبتكر موسوليني فلسفة سياسية جديدة سرعان ما غاصت في تطرف يميني، لكن ذلك التطرف لم يصل إلى ما يوازي التطرف الألماني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما أن موسوليني عُرف حينها بأنه غير مناهض للسامية مما ميزه باكراً عن النازية الألمانية التي راح هتلر يصيغها، لا سيما في كتابه "كفاحي" الذي كتبه في سجنه في ميونيخ.
الفيلم يقدم لنا تلك الصورة للشاب الاشتراكي السابق على خلفية علاقته بإيدا دالسر وتخليه عنها بعدما تزوجها، وهي التي كانت قد باعت كل ما تملك كي تمول له صحيفته التي أصدرها من دون دعم لنشر أفكاره. صحيح أنه اقترن بها وأنجب منها ابناً، لكنه منذ توجه إلى الجبهة ليشارك في الحرب على النقيض من مبادئه السابقة، لم تعد تسمع عنه شيئاً حتى تناهى إلى سمعها بعد حين أنه في المستشفى وقد أصيب بجروح، فقصدته لتزوره، ولكن كذلك لتكتشف أيضاً أنه متزوج الآن من أخرى وله منها ابنة!
الأم والابن في المأوى
ومنذ تلك اللحظة يغيب موسوليني عن أحداث الفيلم إلا من خلال أخبار صعوده السياسي، فيما نتابع على الشاشة حكاية إيدا ومساعيها الجبارة لإثبات أنها زوجة من صار الآن زعيماً، وأن ابنها هو ابنه الشرعي. لكنها بالتدريج تكتشف أن قوة الدولة الفاشية تقف ضدها الآن، ويكون من الطبيعي أن ينتهي الأمر بها إلى أن تعتبر مجنونة وتساق إلى المأوى الخاص بـ "أمثالها"، كما يحدث لابنها، وبذلك، بفضل قوة الديكتاتور وسلطته تحدث تلك الجريمة الإنسانية لكنها جريمة "عادية عائلية" طبعاً لا تتعلق بإبادة شعب أو إثارة حروب أو تدمير نصف العالم، كما أن ما من أحد تعمد استخدام الحكاية للتنديد بموسوليني.
وربما لأنه لم يكن حتى سنواته الأخيرة مناهضاً للسامية كما أسلفنا، هو الذي بنى شبابه المبكر على أفكار اشتراكية بدت دائماً إنسانية.
الكتاب أكثر فصاحة!
لكن الكتاب الذي صدر بعد ظهور الفيلم أتى لينسف، كما يبدو، تلك الصورة من أساسها، وبالتالي أتى ليثير من السجالات أضعاف ما أثاره الفيلم، بل لنقل إن الفيلم لم يثر سجالات جدية، وكان ذلك منطقياً، وبالتحديد لأن كاتبته كانت أقرب إلى موسوليني من أي إنسان آخر، وبالتالي كان في إمكانها أن تكشف كثيراً من أسرار تقول في يومياتها إن الدوتشي كان يسر بها إليها وهما مستلقيان ليلياً على سرير واحد ورأساهما متقاربان على وسادة واحدة طوال سنوات عدة، فما الأمور الجوهرية التي ستقول كلاريتا في يومياتها إنها عرفتها عن موسوليني وعلى لسانه مباشرة؟ أمور كثيرة بالطبع، ولكن في مقدمها اعترافه لها بأنه، وعلى عكس الصورة التي كانت شائعة عنه، كان "معادياً للسامية يكره اليهود ويحتقرهم ويريد التخلص منهم بأي شكل من الأشكال، وذلك منذ كان مناضلاً اشتراكياً".
إذا ليس صحيحاً، بحسب تلك اليوميات، أن موسوليني اتخذ مواقفه السلبية إزاء اليهود في زمن متأخر وكنوع من مسايرة هتلر الذي بدأت تحالفاته معه حتى سنوات قبل أن يصل الفوهرر إلى سدة الحكم في ألمانيا عام 1933، بل ربما يكون العداء للسامية هو ما جمع الرجلين في تحالف واحد بأكثر مما فعلت أية "قضية مشتركة أخرى"، والحقيقة أن ما تقوله كلاريتا هنا كاشفة عنه للمرة الأولى في يومياتها يأتي مفاجئاً، وبالتحديد لأنه حتى وإن كان مكتوباً وموجوداً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبعد زوال الفاشية الحاكمة في إيطاليا، فإن أحداً لم يتمكن من الاطلاع عليه ربما بسبب اعتراض ورثة امرأة موسوليني الأخيرة على كل المحاولات التي جرت لنشره، ومن هنا أقدمت السلطات الإيطالية على مصادرة المخطوطة في العام 1950 معلنة ضمها إلى "أسرار الدولة".
توليف مغرض
والحقيقة أن الكتاب الذي صدر عام 2010 ليس مذكرات كلاريتا بيتاتشي تماماً، بل توليف لنحو 100 صفحة من مذكراتها تتناول السنوات السبع التي أشرنا إليها أول هذا الكلام، وهو توليف يشمل إفشاء كلاريتا لما تقول إن حبيبها قد أسر إليها به تحديداً ليلة الرابع من أغسطس (آب) 1938 بقوله وهو يبتسم بمكر، "في الحقيقة أنني كنت معادياً بقوة وبشكل حاسم للسامية منذ العام 1921، ولست أفهم كيف يمكن للناس أن يعتقدوا أنني كنت أقلد هتلر في ذلك، فيوم صرت أنا معادياً للسامية لم يكن هتلر قد ولد بعد. يضحكني الناس وأنا أعتقد أنه من واجبنا أن ندافع عن عرقنا".
والحقيقة أن السؤال الكبير الذي برز يومها في المقالات الصحافية التي علقت على الكتاب كان عما إن لم يكن موسوليني راغباً في ذلك الكلام المهموس أن يثير إعجاب حبيبته لا أكثر!