يحيل بطرس المعري قارئ كتابه الجديد "رؤيا الدمشقي- قصص الخوف ورسوماته" إلى ثنائية الرسم والشعر، وفي لقائهما يذهب الفنان والشاعر السوري إلى توظيف أسلوب "المونوتايب" كتجاور فني مع نصوصه التي يضمنها في ثماني مقطعات تترواح بين الشعري والنثري، مستلهمة أصلاً فوتوغرافياً عن أماكن وأشخاص وأزمنة، وهذا ما يجعل حب التصوير والشغف به يتحولان إلى طريقة شخصية في المشاهدة، والتعامل مع المحيط، ومن ثم الوصول إلى تشكيل أدوات، وبناء تصورات خاصة عن الحرب في سوريا.
يمكننا تتبع مسيرة هذا الفنان في هذا النوع من التوأمة بين التصوير والكتابة، والتي كان بدأها سنة 2012 بتأسيسه صفحة على "فيسبوك" سماها "أبو عذاب آند فريندز" وهي صفحة ساخرة تقوم على شخصيات كرتونية صممها ليحكي على لسانها بعض الأفكار والطرف السياسية، وكان يخاطب من خلالها الشباب من طلبته وأصدقائه، ومن يدخل صفحته كنوع من تخفيف الاحتقان بين أطراف الصراع السوري.
وجد بطرس أن هذا النوع من الأعمال محبب كوجبة خفيفة للقارئ أو المتصفح، فطرح من خلالها وجهة نظره الاجتماعية والسياسية، وكان ينشر وقتها في صفحته على الموقع الأزرق بمعدل أربع رسومات أسبوعياً، فأصبح للصفحة متابعون، إضافة إلى هذا نشر المعري في صفحته أعمالاً فنية مختارة كنوع من الثقافة البصرية الموجهة، وقد رافق ذلك كتابته لبعض النصوص القصيرة أو الخواطر الشعرية والنثرية، لتكون مترافقة مع نشر لوحة من لوحاته، فهو يعتقد أن طبيعة القارئ تغيرت اليوم، وهو في أسلوبه الجديد يذكرنا بموجة القصيدة التسجيلية التي سادت فترة الثمانينيات في سوريا، و انتهجت وقتذاك أسلوب "الريبورتاجات الشعرية"، والتي كان من روادها الشاعران السوريان إبراهيم الجرادي وإبراهيم الخليل والعراقي خالد الخشان، وقدم هؤلاء كتباً شعرية مترافقة بصور ورسوم بتوقيع الرسام الفلسطيني مصطفى الحلاج (1938-2002) وكان أبرز هذه الإصدارات كتابهم المعنون بـ "موكب من رذاذ المودة والشبهات".
الكتابة بجوار اللوحة
المعري المتخرج في كلية الفنون الجميلة في اختصاص الحفر والطباعة عام 1991 أقام العديد من المعارض الفردية والمشتركة في دمشق وباريس والإسكندرية وبيروت وهامبورغ حيث مكان إقامته اليوم، ويعود إلى مشاكسة مغايرة منتقلاً من الكتابة على اللوحة إلى الكتابة بجوارها، مشتغلاً على مزاج تشكيلي شعري ينهل بقوة من التراثي والشعبي والأسطوري، فمثلما حضرت القصيدة في لوحاته تتراءى لنا الحياة الدمشقية بثرثرات مقاهيها وجلبة أسواقها ودوخة متصوفيها في كتابه "رؤيا الدمشقي" الصادر حديثاً عن دار "أطلس" – دمشق، عبر شاعرية ذات نبرة خافتة ومقاربة حساسة لتقنية الغرافيك والكولاج والكاريكاتور.
المعري الحاصل على شهادة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الاجتماعية من إحدى جامعات باريس، والمتفرغ اليوم للعمل الفني في ألمانيا، صار له أسلوب وبصمة خاصة في نقل حياة مدينته، ولكن بعيداً من تصوير البيوت الدمشقية وأجواء الحارات الشعبية بطابع فولكلوري، أو تقليدها بشكل ركيك كما في الأعمال الاستشراقية، فالمقهى الشعبي بالنسبة إليه ليس فقط ذلك المكان الذي يجلس فيه السائح ويأخذ صوراً مع نرجيلته، بل هو مكان له دوره في الحياة العامة، لا سيما في بداية القرن الـ 20 ومنتصفه، تلك الفترة شغلت المعري كثيراً كما شغله رمز هذه الحقبة التاريخية الفنية، وهو الرسام الشعبي أبو صبحي التيناوي (1888-1973) الذي نهلت أعماله من سير المقاهي التاريخية والدينية.
كان للقاء المعري مع الرسام الراحل برهان كركوتلي (1932-2003) مرات عدة في ألمانيا أثر كبير في بناء طريقة تفكيره إزاء الموضوع الدمشقي، فالحكاية لديه ليست طربوشاً ومقهى وطاولة أو سيرة عنترة، بل هي مسألة عميقة تعكس مزاجاً جمالياً خاصاً.
أجواء دمشق الشعبية
قبل سفر المعري إلى فرنسا للدراسة كان يرسم بطريقة الانطباعيين، ثم كانت له تجارب بسيطة في التجريد إلى أن باشر بحثه الأكاديمي عن التصاوير الشعبية في الشرق الأوسط وعلاقتها بالموروث المحكي، وفعلاً بدأت هذه التصاوير والحكايات وأبطالها تستهويه، وتأخذه رويداً رويداً إلى عالم مختلف جداً عن المحيط الباريسي الذي كان يعيش فيه، وعن الفن الذي كان يمارسه سابقاً، وكان بدأ حينها بمخططات لأجواء المقاهي الشعبية بكل ما تملك من ثراء وغنى وتفاصيل، ثم نفذ العديد منها على الورق، وكانت حصيلة هذه التجارب معرضاً في المركز الثقافي السوري في باريس سنة 2000.
في تلك الفترة أيضاً نشر بطرس ثلاثة كتب للأطفال باللغتين الفرنسية والعربية، وأخذ قصصها أيضاً من هذا الموروث الشعبي المحكي، فأعاد صياغتها لتتلاءم مع سن القارئ الصغير، وقام برسم لوحاتها كتجربة فنية أخرى دعمت دراسته النظرية، وهذا ما يبرر لجوء بطرس في "رؤيا الدمشقي" ومن قبله "كيوبيد الدمشقي" (دار أطلس-2018) إلى رسم لوحاته بالأبيض والأسود كإخلاص ربما لفن الحفر الذي درسه، بحيث وظف الفنان السوري قلم الرصاص والحبر الصيني في تصاويره ليذهب إلى الكتابة على لوحاته كما فعل في معرضه "أوقات فراغ دمشقية" عام 2012، مسجلاً كثيراً من الحنين، ومفجراً ذاكرته عبر أروقة بل شوارع أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ.
ونلحظ هذا في رسومه التي ضمنها "رؤيا الدمشقي"، فهو يتجول بنا ما بين ساحة باب توما والجامع الأموي مروراً بحي القيمرية، وصولاً إلى سوق البزورية والشارع المستقيم في البلدة الأثرية.
وإذا كانت رسومات المعري تعتمد البساطة والعفوية وتقنية الضربة الأولى للريشة، إلا أنها أعمال واكبت النبرة الخافتة للنصوص وابتعدت كلياً من الخطابية والمباشرة، مستعيدة رهافة الشاعر رياض الصالح الحسين (1954- 1982) ونصوصه عن "خراب الدورة الدموية".
يقول المعري: "سجلوا ذكرياتكم قبل أن تأتي عليها النار/ سجلوا تفاصيل حبكم الأول/ وأسماء الأصحاب والخلان والجيران/ سجلوا أسماء أماكن اللعب والمشاوير/ والدكاكين التي صرفتم فيها ليرتكم الأولى/ أو قرشكم الأول/ صوروا وجوه أمهاتكم/ صوروا باب الدار وشجرة النارنج في أرضها/ صوروا باب باحة المدرسة وسورها/ احتفظوا بصورة بائع الكاز المتجول/ والبدوية التي تبيعكم الخس والهندباء والنعناع/ وتلك التي تحمل إليكم اللبن والجبن والحليب/ صوروا وجوهكم الجميلة قبل أن تلتهمها النار/ نار لا برد فيها ولا سلام" (ص 29).
لغة تشكيلية
الرسم بالخط وإغناء اللوحة بالزخارف والكتابات أوجدا عند هذا الرسام لغة تشكيلية بسيطة ناسبت مواضيعه، فاعتمدها في كثير من لوحاته مستلهماً أجواء البيئة الشامية، موضوعه الأقرب إلى قلبه، ومبتعداً من التعقيد مقترباً من المباشرة والبساطة في الطرح، وهذا ما جعل بطرس يتخلص من الرقيب الاجتماعي والسياسي في كتاباته ورسوماته، منحازاً لبراءة تشكيلية تكونت في دمشق قبل باريس وهامبورغ، وهذا ما يمكن تلمسه في عناوين لوحاته المثيرة للانتباه من قبيل "بارودة وسيجار"، "حنفية"، "الولد ذو الطربوش الأخضر"، "أحبك"، "لاعبا الورق"، كما تحضر أيضاً شخوص الدراويش والمتصوفة والأدباء السوريين في رسوماته، من مثل عمر الخيام ومحي الدين ابن عربي ومحمد الماغوط وزكريا تامر وسواهم.
وتبرز في رسوماته نكهة السخرية المريرة عبر أعمال "غرافيكية" تقوم هنا على أسلوب بسيط وسريع التنفيذ، وأحياناً تقترب من شكل شخصيات مسرح خيال الظل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كل هذا ترافق مع نصوص صادمة عن الأماكن التي أبادتها الحرب، كما في سرديته الشعرية عن الشام والغوطة وحلب واللاذقية وجرمانا وباب توما، مطوحاً بنا إلى بلاد المنفى وشتات السوريين في برلين وباريس ومخيمات اللجوء، ومن ثم في مقطوعات عنونها بـ "بروفايلات دمشقية" يحكي فيها عن الأستاذ توفيق في دكان الحلاقة، وقصة الصائغ وشلة الأصدقاء في المطعم الشامي يغادرون قبل بدء سهرتهم المعتادة، وعن الأخرس الذي يقضي الليل وحيداً أمام شاشة حاسوبه الشخصي، يكتب ويمحو من دون أن يصل إلى جملة مفيدة يستطيع التعبير بها عن أهوال الحرب، ومثلهم "الأستاذ فايز" و"مدام جولييت" و "ناطورة المفاتيح"، إضافة إلى شخصيات من مثل "المريض النفسي" و"العاشقة" و"بنطلون جينز" و"ساعي البريد" و"الرسام" و"سعيد الرملي" الرجل الذي كان يحلم أن يموت ميتة طبيعية من دون أن تخترق جسده قذيفة هاون، أو تفتت عظامه سيارة مفخخة.
ويمكن قراءة نص بعنوان "رؤيا الدمشقي" الذي تتراءى فيه شخصية يوحنا المعمدان مع شخصية محي الدين ابن عربي، عبر لعبة طفولية ترسم بالطباشير البيضاء هذه الشخصيات التي ينسجها المعري جنباً إلى جنب مع فصل بعنوان "حكواتي العامية"، فيسرد بطرس على لسانه قصصاً من مثل "أبو لميا" و"حكاية أسعد" و"حكاية المديون"، وصولاً إلى فصل "وجهة سفر" التي يروي فيها الكاتب يومياته بين باريس وهامبورغ وعمان، مدوناً سيرة أصدقاء له في المنفى ومستعيداً لقطات من الذاكرة عن مشاعره وهو في الطائرة تمر فوق بلاده من دون أن يتمكن من رؤيتها إلا عبر سديم من الغيم يحجبه عنها.