راجت أنباء في الأسبوعين الماضيين عن سحب "حزب الله" اللبناني وبعض الميليشيات الموالية لإيران و"حرس الثورة" في إيران قواتها من جنوب سوريا وبعض ريف العاصمة دمشق إلى مناطق في وسط سوريا، فيما انكفأ المقاتلون التابعون للحزب إلى الداخل اللبناني.
وإذ رددت مصادر متفرقة ومتعددة هذه المعلومات، بما فيها تأكيد زوار العاصمة الروسية موسكو أنها انسحابات جرت في إطار ترتيبات رعاها الجانب الروسي من أجل خفض التوتر في محافظة درعا الجنوبية المحاذية للحدود مع الجولان المحتل من قبل إسرائيل، فإن بعض التقارير نسب نقل "حزب الله" بعض قواته إلى لبنان وإلى مناطق أخرى في سوريا، إلى تكثيف الغارات الإسرائيلية التي تستهدف مواقع يتمركز فيها مع الحرس الثوري لا سيما في جنوب سوريا، وفي محيط مستودعات الأسلحة التي يخزنها "حرس الثورة" الإيرانية في محيط مدينة حلب وفي مطار تي. فور، وفي منطقة دير الزور. فهذه الغارات تسببت له بخسائر لم يعلن عن بعضها خلافاً لعادته تشييع عناصره الذين يسقطون في سوريا علناً بعد نعيهم.
انكفاء نحو لبنان والقصير
وأفادت التقارير في هذا الصدد أن جزءاً من قوات الحزب المنسحبة تمركز في مدينة القصير المحاذية للحدود مع لبنان والتي للحزب فيها أكثر من قاعدة ومخازن للأسلحة الثقيلة، بما يوحي بأنه نفذ عملية إعادة انتشار عسكري وفق مقتضيات استمرار وجوده على الساحة السورية. وهو أبقى في هذا السياق على بعض مقاتليه في محيط منطقة إدلب للبقاء إلى جانب الجيش السوري، خصوصاً أن رئيس النظام السوري بشار الأسد ما زال ينوي استرجاع السيطرة عليها بالقوة على الرغم من التسويات التي تسعى إليها روسيا في شأن المحافظة، بالعلاقة مع تركيا التي تحتفظ بوجود وازن فيها، في إطار اتفاقات أستانا بينها وبين الجانبين الإيراني والروسي للفصل بين قوات المعارضة وبين الجيش السوري والقوات المساندة له.
ورافقت هذه الأنباء معطيات عن انسحاب بعض ميليشيات الحشد الشعبي العراقي أيضاً من سوريا إلى العراق.
"توفير مصاريف" أم ترتيبات دولية؟
وليس من عادة "حزب الله" التعليق على أنباء في شأن انسحابات مقاتليه من الميدان السوري، كانت أوساطه تردُّها في مراحل سابقة إلى تبديل في القوات، أو إلى إرسال مقاتليه للراحة إذا لم تكن من حاجة إليهم في معارك مهمة. كما أن بعض المصادر المقربة من الحزب سبق أن رد الانسحابات التي قام بها في مراحل سابقة إلى الحاجة لتوفير مصاريف انتقال مقاتليه والعمليات اللوجستية التي يتطلبها وجودهم في سوريا منذ أن ارتفع سعر المحروقات المستخدمة لتنقل آلياته ولا سيما بعد رفع الدعم عنها في لبنان، ما زادها أضعافاً مضاعفة... خصوصاً إذا لم تكن هناك معارك حاسمة يفترض خوضها هناك.
إلا أن مراقبين لم يستبعدوا أن تكون الانسحابات من درعا وجنوب سوريا قد حصلت في إطار ترتيبات سياسية دولية جرت على خطين: الأول هو الضغط الروسي الذي أدى إلى حرمان النظام السوري من تنفيذ الحسم العسكري عبر الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد في منطقة درعا بدعم من الميليشيات الإيرانية و"حرس الثورة" خلال الصيف الماضي، والذي أفضى مطلع شهر سبتمبر (أيلول) الماضي إلى اتفاق على انسحاب جزء من قوات النظام وتلك الميليشيات الموالية لإيران، التي كانت تحاصر درعا البلد منذ الربيع الماضي، مقابل سحب بعض المجموعات العسكرية المعارضة والأسلحة الثقيلة من المدينة التي بقيت عصية على النظام وعلى التغلغل الإيراني فيها عبر خلق مجموعات موالية للحزب وطهران. فالضغط الروسي نحو حل سلمي للتمرد على النظام قضى بدخول أحد ألوية الفيلق الخامس الذي لموسكو نفوذ حاسم فيه، والشرطة الروسية، في سياق التزامها ضمان أمن إسرائيل، بالتالي الحؤول دون تثبيت طهران قواعد لها في المنطقة الجنوبية القريبة من الحدود مع الجولان المحتل. وفضلاً عن أن هذا كان مطلباً إسرائيلياً فإن التغلغل الإيراني كان موضوع شكوى أردنية متواصلة من وجود المجموعات الموالية لطهران في منطقة قريبة من الحدود الأردنية- السورية (معبر جابر نصيب) طرحتها عمّان مع موسكو، داعية الأخيرة إلى إبعاد هذه المجموعات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أكثر من ذلك فإن زوار موسكو ينقلون عنها أنها لو لم تضغط من أجل الحل السلمي والانسحابات من منطقة درعا، لكانت قوات المعارضة في المحافظة اتجهت نحو إعلان ما يشبه الانفصال والاستقلال عن دمشق، ولكان ذلك أطلق شرارة تقسيم سوريا، وجدد المعارك العسكرية فيها على نطاق واسع.
أما الخط الثاني الذي كثرت التكهنات حوله في الأشهر الماضية، والذي يفيد بأن الانسحابات الإيرانية تأتي في سياق الترتيبات السياسية الدولية والإقليمية، فهو المتعلق بتهيئة الأرضية في سوريا لانسحابات للقوات الأجنبية بما فيها التركية والأميركية من شمال سوريا، ما يتطلب انكفاء إيرانياً في البداية، فضلاً عن إصرار موسكو على الدول العربية ولا سيما الخليجية أن تنفتح على النظام السوري لأن غيابها جعل طهران تملأ الفراغ في السنوات السابقة. هذا فضلاً عن أن القيادة الروسية ترمي من وراء هذا الانفتاح العربي تشكيل منظومة إقليمية - دولية توظف أموالاً في إعادة إعمار سوريا، ما يجذب النظام السوري نحو الحل السياسي الذي تعطيه أولوية بقيام صيغة شراكة جديدة في السلطة، مقابل جنوح رئيس النظام السوري نحو العودة إلى السيطرة الأحادية على بلاد الشام بالأسلوب نفسه الذي مارسه حكم آل الأسد والذي لم يعد ممكناً بنظر القيادة الروسية.
اختبارات الانفتاح العربي... خطوة مقابل خطوة
سواء صح أن الانسحابات الإيرانية التي يجري الحديث عنها جرت وفق مقتضيات الأمن الإسرائيلي والمخاوف الأردنية من التغلغل الإيراني، أم أنها تأتي وفق ترتيبات دولية إقليمية لمستقبل انسحابات سائر القوات الأجنبية من سوريا والانفتاح العربي على دمشق أو حصلت بسبب الاثنين معاً، فإن جديتها تتوقف على المناخ الإقليمي والدولي المرافق لاستئناف مفاوضات فيينا حول الملف النووي وإمكان نجاحها، وما سيتبعها من تقاسم النفوذ في المنطقة من جهة، وعلى استعداد نظام الأسد لأخذ مسافة عن طهران من جهة ثانية، في وقت هناك شكوك كبيرة في هذا الشأن، حتى بعد الزيارة التي قام بها وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان إلى العاصمة السورية، والتي فتحت آفاق استثمارات اقتصادية، وبعدما جرت في السابق اتصالات بين دول خليجية ودمشق.
فالانطباع عن هذا الانفتاح أن الدول العربية تدرك أن الغياب العربي الطويل عن سوريا يصعب تعويضه في سرعة وأنه لا بد من أن تأخذ العملية وقتاً طويلاً. ومن هنا بروز المعادلة القائلة بأن هذا الانفتاح سيخضع لتجارب واختبارات على طريقة "خطوة مقابل خطوة"، بحيث أن كل خطوة في سياقه يفترض أن يقابلها النظام السوري بخطوة.
عودة سوريا للجامعة لم تنضج بعد
وفي اعتقاد أوساط دبلوماسية معنية بالوضع السوري، ولا تمانع مبدأ الانفتاح على النظام، أنه على الرغم مما يتردد عن ترتيبات سياسية دولية وإقليمية تقود إلى الانسحابات في سوريا، فإن الأمور لن تسير بالسرعة التي يتصورها البعض. بل أن طريق عودة سوريا إلى الجامعة العربية ليست معبدة بعد كما يستهل البعض الحديث عنها. وعلى الرغم من انفتاح دولة الإمارات ودول أخرى على النظام، فإن استعادة سوريا مقعدها في مجلس الجامعة لم تنضج على الصعيد العربي بعد. والتوقعات في شأن عودة سوريا إلى الجامعة في القمة العربية المنتظرة في مارس (آذار) المقبل في الجزائر لا تشير إلى أن هذه الخطوة ستحصل نظراً إلى معارضة دول عدة لذلك، خصوصاً أن الولايات المتحدة ما زالت تصر على مبدأ الحل السياسي وفق مبادئ القرار الدولي الرقم 2254 والآلية التي يطرحها في شأن "الانتقال السياسي" في الحكم. هذا فضلاً عن إلحاح دول عدة على أخذ دمشق مسافة عن طهران قبل تلك العودة.
وعليه تستبعد هذه الأوساط أن توجه الجزائر كدولة مضيفة للقمة الدعوة لدمشق كي تحضر القمة خصوصاً أنها تحرص على إنجاح استضافتها، في شكل يستفيد منه الحكم فيها إزاء الاضطراب السياسي الذي تشهده، بدل تحولها إلى مسرح للخلافات العربية الإضافية ومحفل للصراعات، فيتسبب ذلك بإفشالها سلفاً، في وقت تمر الجزائر بوضع داخلي حساس من الطبيعي أن يفضل الحكم فيه التفافاً عربياً حوله.