لا تنتمي عمليات زرع الأعضاء إلى علوم الطب الحديث كما يعتقد بعضهم، فقد كانت فكرة استبدال أجزاء الجسم المريضة أو التي لا تقوم بوظائفها موجودة منذ آلاف السنين، وأجرى القديسان الطبيبان كوزموس ودامين في القرن الثالث عمليات زرع معقدة، مثل زرع ساق كاملة جرى تصويرها في عدد من اللوحات الشهيرة.
ومنذ العام 600 قبل الميلاد، توجد رسومات لاستخدام قطع من الجلد مأخوذة من المريض لاستبدال الأنوف المفقودة أو المقطوعة، إذ كانت هذه إحدى طرق التعذيب أو العقاب، إلى جانب التجربة المهمة التي قام بها الطبيب جون هانتر في القرن الـ 18 حين زرع أسناناً بشرية، وزرع فكوك الديوك في فك مرضاه، لكنه لم يكن يدرك فشل التجانس بين خلايا مستعارة من جسم غريب أو من حيوان مع خلايا الجسم المستقبل، وهذا ما جرى اكتشافه أو فهمه ومعرفته في النصف الأخير من القرن الـ 20، حين بات معلوماً للأطباء أن هناك فرقاً كبيراً بين زرع أعضاء من جسد المريض نفسه أو من جسد مريض آخر، فالأولى تنجح عموماً، بينما الثانية قد تتعرض للفشل بسبب عدم تقبل خلايا جسم المريض للخلايا الجديدة.
تسلسل زمني
في النصف الأول من القرن الـ 20 نسب إلى ألكسيس كاريل اختراع خياطة الأوعية الدموية واستخدامها في زرع الأعضاء، وعلى الرغم من أن جائزة نوبل عام 1912 عن تطويره لهذه التقنيات كانت مستحقة، إلا أنه في الواقع لم يكن الأول في هذا المسعى، فقد جرى إجراء عمليات زرع الكلى الناجحة تقنياً في البداية بواسطة Emerich Ullmann عام 1902 حين أجرى زرعاً ذاتياً للكلاب وزرعاً غير متماثل من كلب إلى ماعز.
وفي العام 1906 أجرى جبولاي أول عمليتي زرع كلى في البشر باستخدام متبرع خنزير لأحدهما ومتبرع ماعز للآخر، وبعد إجراء أكثر من 100 عملية زرع كلى في الحيوانات للمرة الأولى تم إجراء عمليتي زرع للبشر باستخدام كلى القرود، ولم يعمل أي من هذه الطعوم أو عمليات الزرع للكلى البشرية المبكرة لأكثر من بضعة أيام، وسرعان ما مات جميع المرضى.
وفي العام 1904 غادر كاريل فرنسا بعد أن فشل في امتحانات عدة للتأهل لمنصب تعليمي هناك، وفي شيكاغو دخل في شراكة مع عالم الفسيولوجيا تشارلز جوثري وتعاونا على مدى سنة، ونجحا في زرع الكلى والغدة الدرقية والمبيض والقلب والرئة والأمعاء الدقيقة.
لم يكن نجاح كاريل في ترقيع الأعضاء يعتمد على طريقة جديدة للخياطة، لكن على استخدامه للإبر الدقيقة ومواد خياطة الجروح ومهاراته الفنية الاستثنائية وهوسه الصارم بالتعقيم.
خلال الحرب العالمية الثانية جرى تعيين بيتر مدور، عالم الحيوان الشاب من أكسفورد الذي لم يكن لديه اهتمام سابق بزرع الأعضاء، للانضمام إلى جراح التجميل توماس جيبسون في استكشاف استخدام تجانس الجلد لعلاج الطيارين المحترقين، من خلال العمل في وحدة الحروق في المستوصف الملكي في غلاسكو، وسرعان ما أعادوا تأكيد أن المنتجات المثلية تفشل دائماً بسبب محاربة جهاز المناعة لها.
وغالباً ما تُنسب هذه الملاحظة إلى الطبيب مدور، خصوصاً أن إسهاماته العديدة اللاحقة كانت مهمة وتجاربه دقيقة للغاية، وكانت طرق شرحه للموضوع في وسائل الإعلام وكتاباته في الصحف الطبية بارعة لدرجة استحق أن يعتبر الشخصية المركزية في مجال الزرع الناشئ.
في العام 1949 كان للصدفة أهمية كبيرة، وفي حفل كوكتيل تحدث مدور مع زميله في الكلية هيو دونالد الذي كان يدرس توأم الماشية، وسأل دونالد عما إذا كان يمكن تمييز التوائم المتطابقة من التوائم الأخوية.
ورد مدور أن الطعوم الجلدية المتبادلة بين التوائم لن يتم قبولها إلا من خلال التطعيمات المماثلة، وعلى الرغم من عدم اقتناعه قام الدكتور مدور وتلميذه بالتجربة على الأبقار عبر ترقيع الجلد، فوجدوا أن معظم الأبقار قبلت طعم التوأم.
من هو المتبرع والمتبرّع له؟
قبل منتصف الستينيات كان استخدام الأعضاء من المتبرعين المتوفين بمجرد توقف القلب عن النبض، وهذا هو التعريف السائد للموت، وخلال السنوات القليلة التالية كان هناك قبول تدريجي ومثير للجدل بأن الفقدان الدائم لوظائف الدماغ كان أيضاً شكلاً من أشكال الموت، ومن شأنه أن يسمح بإزالة الأعضاء من "جثة ينبض قلبها".
في العام 1968 نشرت "لجنة هارفارد المتخصصة في الموت الدماغي" توصيتها التي تقضي بقبول فقدان وظائف الدماغ بشكل لا رجعة فيه كموت، وهذا ما كان عاملاً حاسماً في زيادة عدد عمليات زرع الأعضاء وبخاصة الكلى.
ويعتبر تطور زرع الأعضاء في نصف القرن الماضي إحدى قصص الطب العظيمة، ولدعم هذه الأبحاث ومنحها الشرعية الطبية العالمية مُنح خمس جوائز نوبل للزرع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذاً يمكن اختصار عملية زرع الأعضاء على أنها إجراء طبي يجري فيه إزالة عضو من جسد المانح ونقله إلى جسد المتلقي لاستبدال عضو تالف أو مفقود، وقد يكون المتبرع والمتلقي في الموقع نفسه، أو يمكن نقل الأعضاء من موقع المتبرع إلى مكان آخر.
أما الأعضاء التي تمكنت العلوم الطبية من التوصل إلى زرعها بنجاح حتى يومنا هذا، فتشمل الأنسجة والعظام والأوتار وقرنية العين والجلد وصمامات القلب والأعصاب والأوردة، أما الكلى فهي أكثر الأعضاء التي يجري زرعها في جميع أنحاء العالم، تليها الكبد ثم القلب.
أما زرع القرنية والعضلات الهيكلية فقد باتت أكثر عمليات الزرع شيوعاً وتفوق زرع الأعضاء الأخرى بعشرة أضعاف،
وعلى الرغم من أن زرع الأعضاء يعتبر أحد أهم التطورات العظيمة في الطب الحديث، فإن الحاجة إلى المتبرعين بالأعضاء أكبر بكثير من عدد الأشخاص الذين يتبرعون بالفعل، ففي كل يوم في الولايات المتحدة يموت 21 شخصاً، وهم ينتظرون عضواً تم التبرع به أو شراؤه في حال كان قادماً من بلد يسمح قانونياً بالتبرع.
أما عمن يمكنه أن يكون متبرعاً بالأعضاء، فإن كل الناس ومن جميع الأعمار يمكن اعتبارهم مانحين محتملين، وكذلك الأشخاص الذين أبدوا رغبتهم في التبرع بأعضائهم عند موتهم عبر أوراق قانونية.
وفي جواب عن سؤال "إذا كنت بحاجة إلى زرع عضو أو أنسجة فماذا أفعل؟" فإن الإجابة واضحة تماماً عبر شبكات الإنترنت في الولايات المتحدة، وهي إذا كنت بحاجة إلى عملية زرع فأنت بحاجة إلى التسجيل على قائمة الانتظار الوطنية. وللحصول على القائمة تحتاج إلى زيارة مستشفى زرع الأعضاء، وللعثور على مستشفى زرع بالقرب منك قم بزيارة السجل العلمي لمتلقي الزرع (SRTR) واستخدم وظيفة البحث في أعلى الصفحة. سيقوم فريق متعدد التخصصات في مستشفى الزرع بتقويمك وتحديد ما إذا كنت مرشحاً مناسباً لعملية الزرع، إضافة إلى المعايير التي وضعتها الشبكة المتحدة لمشاركة الأعضاء (UNOS) لبعض أنواع الأعضاء، فإن لكل مستشفى زرع معاييره الخاصة لقبول المرشحين، وإذا قرر فريق الزرع بالمستشفى أنك مرشح جيد للزرع فسيضيفك إلى قائمة الانتظار الوطنية، ويمكنك التسجيل على قائمة الانتظار في أكثر من مستشفى زرع واحد، إذ تسمح سياسات UNOS بـ "الإدراج المتعدد"، وتحتفظ بشبكة شراء الأعضاء الوطنية وزرعها، وتتم عملية مطابقة المتبرعين بالأعضاء مع المستلمين المنتظرين على مدى 24 ساعة في اليوم وفي كل يوم من أيام السنة.
الأعضاء الأكثر تداولاً للزرع
القلب هو من أهم الأعضاء التي ينتظرها الموعودون بعمليات الزرع، فالقلب إذا لم يضخ الدم بشكل صحيح يمكن أن يمرض باقي الجسم بسرعة كبيرة، ويتم إجراء عمليات زرع القلب عندما تفشل جميع أشكال العلاج الطبي الأخرى، وغالباً ما يحتاج الأشخاص المصابون بالتليف الكيسي أو انتفاخ الرئة إلى عمليات زرع الرئة، خصوصاً للذين لا تستطيع رئتهم توفير الأكسجين الكافي لأجسامهم، ويمكن زرع الرئتين معاً في متلق واحد أو فصلهما وزرعهما كرئتين منفردتين في متلقين اثنين.
أما الكبد فهو عضو معقد له وظائف عدة، مثل الحفاظ على توازن العناصر الغذائية وإزالة الفضلات وتنظيم تخثر الدم، ويمكن للأشخاص الذين يعانون أمراض الكبد الاستقلابية والتهاب الكبد B أو C والعيوب الخلقية في الكبد مثل رتق القناة الصفراوية، أن يحتاجوا جميعاً إلى زرع الكبد للبقاء على قيد الحياة.
ويعد الكبد عضواً فريداً من نوعه، إذ يمكنه إعادة النمو، وهذا يعني أنه يمكن تصغير حجم الكبد البالغ وزرعه في طفل صغير، إذ يمكن أن ينمو مع الطفل، وبدلاً من ذلك يمكن تقسيم الكبد وزرعه لمتلقين.
وتُجرى غالبية عمليات زرع البنكرياس على الأشخاص المصابين بداء السكري من النوع الأول، الذي يمكن أن يتسبب أيضاً في الفشل الكلوي، ولهذا السبب غالباً ما يزرع البنكرياس مع كلية من المتبرع نفسه.
ويمكن زرع أنسجة العين مثل القرنية، أي النسيج الشفاف الذي يغطي الجزء الملون من العين، والذي يسمح للضوء بالمرور إلى الشبكية.
وتعيد عمليات زرع القرنية البصر للأشخاص المكفوفين جزئياً أو كلياً بسبب تلف القرنية بعد حالة وراثية أو مرض أو إصابة.
ويمكن تطعيم أنسجة العظام المتبرع بها لتعويض العظام المفقودة نتيجة الأورام أو من خلال أمراض أو حوادث أخرى، ويمكن لمن عانوا حروقاً شديدة تتطلب ترقيعاً للجلد استعادة صحتهم مرة أخرى، إذ عادة ما يتم الحصول على الجلد المزروع من ظهر الشخص وخلف ساقيه، وفي المتوسط يلزم جلد من ثلاثة متبرعين لمتلق واحد.