لم تبدأ قضية تيغراي التي أوصلت البلاد إلى حرب إثنية، على أساس عسكري، إنما كانت قضية سياسية، تفجرت غيرها في البلاد ذات الإثنيات المتعددة، ولكن اختارت الأطراف المتصارعة التصعيد والتصعيد العسكري المضاد، إذ لم يبقَ غير صوت البنادق أداة للحوار.
وبعد تحذير الولايات المتحدة من أن "لا حل عسكرياً" للصراع في إثيوبيا، طُرحت خيارات سياسية عدة لحل الأزمة، مع أن الخيار العسكري أيضاً تمت تقويته بعد نزول رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى ميدان القتال إلى جانب قواته بعدما سلّم المهمات الحكومية إلى نائبه ديميكي ميكونين.
مظاهر عسكرية
منذ بداية صراع تيغراي، تحرص الحكومة الإثيوبية على إبراز المظاهر العسكرية للحرب الدائرة هناك، وزادت وتيرة ذلك بعد مناداة أصوات دولية وإقليمية بضرورة التفاوض حول وضع حد للتصعيد العسكري ووقف الحرب. وتعمل القوات الإثيوبية في اتجاهين، الاتجاه الأول، مواصلة شنّ سلاح الجو الإثيوبي غارات جوية بطائرات مسيّرة على مدينة ميكيلي عاصمة تيغراي.
أما الاتجاه الثاني، ففي إقليم عفر شمال شرقي البلاد، حيث ظهر آبي أحمد مرتدياً الزي العسكري على خط الجبهة الأمامي مع الجيش الفيدرالي الذي يقاتل قوات تيغراي.
وأعلنت الحكومة بعد ذلك بيومين أن "الجيش الفيدرالي بقيادة القائد العام لقوات الدفاع الوطني آبي أحمد تمكن من تحرير منطقة كاساغيتا في إقليم عفر، ومناطق بورقا والجبال المحيطة بمدينة باتي شيفرا ويتقدم نحو مدينة كومبلشا في إقليم أمهرة"، وهي المنطقة التي سيطرت عليها قوات "جبهة تحرير تيغراي"، إضافة إلى ديسي وخميسي أوائل شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي.
ومع تعهد قوات الجبهة بمواصلة زحفها لدخول العاصمة أديس أبابا وتكوين حكومة انتقالية، فإن الحكومة الإثيوبية تكون بحاجة إلى عدد كبير من الانتصارات التي تخدم آبي أحمد وقواته. وما يزيد من تعقيد الصورة أن منطقة شيفرا المتنازع عليها بين القوات الحكومية وقوات تيغراي تقع على الطريق السريع (ميلي) الذي يربط بين إثيوبيا وميناء جيبوتي، وتكون قوات تيغراي فقدت أحد النقاط المهمة التي كانت ستكسبها سيطرة على الطريق الاستراتيجي والميناء الرئيس في منطقة القرن الأفريقي، ما لم تتغير قواعد الحرب مرة أخرى.
ومن بين أهم المعايير المهمة لهذه التوجهات الاستراتيجية الجديدة، أن الحكومة الفيدرالية تحاول إنقاذ الوضع الاقتصادي الذي كان سيزداد سوءاً بفقدانها لـ 90 في المئة من الواردات الإثيوبية الآتية عبر ميناء جيبوتي، وما قد ينعكس بقوة على دول الإقليم.
مسارات ومواقف
مرّ الموقف الأميركي تجاه الأزمة الإثيوبية بمراحل عدة، المرحلة الأولى وهي التي اندلع خلالها صراع تيغراي في نوفمبر 2020 مع نهاية عهد الرئيس السابق دونالد ترمب، الذي كان مؤيداً سلفاً للخيار العسكري لحل أزمة سد النهضة، ما رسّخ فرضية محاباة الولايات المتحدة لمصر والسودان على حساب إثيوبيا، وانعكاس ذلك على الأزمات الإثيوبية الأخرى ومنها صراع تيغراي والحدود السودانية الإثيوبية.
أما المرحلة الثانية، فهي بعد مجيء جو بايدن، إذ لم تستطِع الولايات المتحدة الابتعاد عن أحداث القرن الأفريقي وإثيوبيا بل وجدت نفسها منغمسة فيها ولكنها حاولت اتخاذ موقف متوازن بين الطرفين، فخاطبتهما بضرورة التفاوض وطالبت بإجراء تحقيق دولي في نزاع تيغراي.
ثم تبعت ذلك بخطوات عقابية بتعليقها إعفاء الصادرات الإثيوبية من الرسوم الجمركية (أغوا) بموجب اتفاق التجارة الأفريقي. وشملت العقوبات أيضاً تجميد أصول قائد الجيش الإريتري فيليبوس ولدوهانز بوصفه المسؤول في قوات تورطت في انتهاكات لحقوق الإنسان.
الخيار الأوحد
حافظت واشنطن على موقفها الأخير، مؤكدة أن الدبلوماسية هي "الخيار الأول والأخير والأوحد" لوقف الصراع الدائر في إثيوبيا. وبعدما نشرت السفارة الأميركية في أديس أبابا بياناً لرعاياها تحذرهم من احتمال وقوع هجمات إرهابية وتطالبهم بالرحيل، اتهم وزير الدولة في وزارة السلام الإثيوبية تاي دنديا أريدو، الولايات المتحدة بـ"مواصلة نشر معلومات كاذبة ومضللة عن الوضع في البلاد".
وفُسّرت هذه الخطوة على أنها ضغوط أميركية على الحكومة الإثيوبية، ومساندة لجبهة تحرير تيغراي،إضافة إلى ملاحظة أن إدارة بايدن لم تتخذ موقفاً واضحاً بشأن سد النهضة، ما يعني أنه لا يمثّل أولوية للسياسة الخارجية الأميركية مثلما يمثّل صراع تيغراي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتجسّد الرأي الرافض للموقف الأميركي في تظاهر مئات الإثيوبيين أمام سفارتي الولايات المتحدة وبريطانيا، حاملين لافتات مندّدة بما سمّوه تدخلاً في الشؤون الداخلية، بينما اتخذت التظاهرات مساراً آخر يعبّر عن الشكر لروسيا والصين الداعمتين لآبي أحمد، وصولاً إلى السفارة الروسية.
وفي الاتجاه الآخر، يرى معارضون لسياسة آبي أحمد أنه استغل الدعم الوطني لسد النهضة، بإصدار صك موافقة على كل سياساته بما فيها الانتهاكات الإنسانية خلال صراع تيغراي. ولتجنّب المساءلة الدولية، حشد أنصاره عبر الترويج لفكرة العدوان الإمبريالي الأميركي على إثيوبيا.
تسوية تفاوضية
يدور نقاش النخبة الإثيوبية حول من بدأ الحرب وذلك لإثبات فرضية أن هذا الطرف هو من يفضل الحل العسكري على السياسي. كما ترى النخبة ذاتها أن الولايات المتحدة لديها ما يبرّر موقفها الموالي لجبهة تحرير تيغراي، ليس من باب مناصرة حقوق هذه القومية، إنما لأنها لا تضع نفسها في مرتبة واحدة مع دولة من العالم الثالث مهما تكُن مكانتها، ولذلك هي تتذرع بحقوق الأقليات.
أسهم في إحكام سيطرة جبهة تحرير تيغراي العسكرية، في بدايات المعارك، إرثها العسكري إبان وجودها في السلطة لمدة 27 عاماً، وقد أهّلت رجالها عسكرياً، ودعمتهم بتيغراي إريتريا وعفر الصومال، واستطاعت السيطرة على مقر القيادة العسكرية الشمالية للقوات المسلحة الإثيوبية في مدينة ميكيلي، عاصمة الإقليم.
تحرك آبي أحمد للاستنجاد بالقوات الإريترية وقوات إقليم أمهرة وميليشياتها، كما استقطبت جيهة تيغراي بقية القوميات التي انضمت إليها أخيراً.
وما يسري على القيادات السياسية والعسكرية، يسري كذلك على هذه النخب إذ إنها محكومة بأصولها القومية وخاضعة أيضاً للاستقطابات الإثنية.
وفي وصف آخر لصراع تيغراي مع القوات الحكومية هو أنه نتيجة لاعتبار إثيوبيا ساحة معركة بالوكالة للقوى الخارجية لتصفية حساباتها، وذلك من واقع استفادة هذه القوى من العناصر الداعمة للفرقة في المجتمع الإثيوبي وهي تعدد الإثنيات، والديانات التي تقسم هذه القوميات، كما يمكن أن تنقسم الإثنية الواحدة إلى أكثر من ديانة، إضافة إلى تركُّز الفوارق الاقتصادية والسيطرة السياسية.
ولكن هذه الفكرة تدحضها النداءات الدولية بضرورة المصالحة الوطنية، وحثها على التوصل إلى تسوية تفاوضية بإزالة البرلمان الفيدرالي التصنيف الإرهابي عن جبهة تحرير تيغراي وعدد من الحركات المسلحة للتمهيد للمحادثات.
منع التفكك
على الأرض، تكثّف القوات الإثيوبية ضرباتها العسكرية بينما تزداد قوات تيغراي إصراراً مع اقترابها أكثر فأكثر من أديس أبابا، ويمكن أن يتغير هذا الواقع بترجيح مركز القوة لدى طرف على حساب الآخر.
فباستيلاء القوات الإثيوبية على منطقة عفر، يُتوقع أن تعيد جبهة تحرير تيغراي حساباتها وتفتح الباب للتفاوض، ولكن من ناحية أخرى، فإن هذا الانتصار سيمدّ آبي أحمد بمزيد من العناد، ما يرجّح زيادة الضغوط الدولية عليه لمنع تفكك الدولة الإثيوبية أو لجوء الجبهة إلى خيار تقرير المصير الذي سيجرّ وراءه قوميات أخرى.
أمام هذا الوضع القاتم، يبدو أن سيناريو سلام دائم بعيد التحقق، خصوصاً في المدى القصير مع عدم توافر الثقة بين الأطراف المتنازعة. وعلى الرغم من عدم استبعاد حدوث السلام نهائياً إلا أن السيناريو الأقرب هو أنه سيكون سلاماً متقطعاً يتم على أرضية التوافق على إدارة مشتركة لهذه الأراضي، أو إنشاء منطقة حكم ذاتي. يستند هذا السيناريو إلى التوصل لترتيبات أمنية بعد هدنة والضغط باتجاه اعتراف تيغراي بالقوات الفيدرالية، وسحب الحكومة وصف "إرهابية" من الجبهة.
هناك أيضاً المشاحنات بين القوميات المختلفة، مثل العداء التاريخي بين تيغراي وأمهرة، ما يشكل تحدياً أمام الوسطاء الدوليين والإقليميين. فإثنية أمهرة تتهم جبهة تيغراي بأنها استولت على أراضيها عندما كانت في السلطة، وأضافت إليها مناطق أخرى في صراعها الأخير مع الحكومة.
وجبهة تيغراي ترد بأنها استعادت فقط أراضيها التي استولت عليها أمهرة من قبل. هذا الوضع قاد إلى ارتكاب تصفيات وفظائع بين المدنيين بتشجيع من قوات الطرفين. وإضافة إلى ذلك، فإن هذا الوضع هو تربة خصبة لخلق خلل ديموغرافي، بلجوء تيغراي إلى شرق السودان، إضافة إلى هجرة كثيرين منهم إلى مختلف الدول ومنها إسرائيل، بعد موافقة تل أبيب على استقبال 3 آلاف إثيوبي من طائفة يهود "الفلاشا"، كانت أسرهم الموجودة في إسرائيل طالبت بلمّ شملهم بعد اشتداد حرب تيغراي.
فرصة السلام
وعليه، فإن فرصة صنع السلام في إثيوبيا تشوبها مهددات تعيق تحقّقها، ما ينعكس استمراراً لتأثير الحرب المباشر في المواطنين الإثيوبيين. وإلى أن يحدث ذلك، فستقضي الحرب على آلاف المواطنين، بينما سيقضي آخرون متأثرين بالمجاعة.
وإن عادت الدولة الإثيوبية، فإن سلطتها الفيدرالية ستكون تحت تهديدات عسكرية واقتصادية، كما لن يقتصر تأثير ذلك في الداخل الإثيوبي فقط وإنما في دول الجوار أيضاً.