لرباعية الموسيقي شوبيرت المعروفة باسم "الموت والصبية" تاريخ طويل يقارب المئتي عام مضت، منذ ولدت للمرة الأولى على شكل أغنية، حتى وصلت أخيراً لتكون عنوان واحد من أكثر أفلام المخرج رومان بولانسكي طموحاً وأقلها نجاحاً. ولنذكر هنا أن هذه القطعة الموسيقية التي تعتبر بشكلها النهائي من أجمل أعمال شوبيرت، تلعب في فيلم بولانسكي دوراً قد يفوق في أهميته، مثلاً، الدور الذي تلعبه سيمفونية بيتهوفن التاسعة في فيلم "برتقال آلي" لستانلي كوبريك. وذلك لأنه إذا كانت تحفة بيتهوفن تقدم أعلى درجات العنف على خلفية ذلك العمل الموسيقي الرائع، فإن فيلم بولانسكي يفعل شيئاً مماثلاً ناهيك بكون استخدام تلك الرباعية يتواكب مع كشف عن هوية لن نغوص فيه هنا فوراً، إذ إن موضوعنا لا علاقة له بذلك.
المهم بالنسبة إلينا هنا هو تلك الرباعية وتطور تاريخها بدءاً من كونها أغنية لحنها شوبيرت انطلاقاً من أحد مقاطع قصيدة للشاعر ماثياس كلوديوس في العام 1817 في عودة منه إلى فن "الليدر"، وهو نوع ألماني خاص جداً من الأغنيات كان قد اعتاد ممارسته منذ سنوات مراهقته، ليبتعد عنه بعد ذلك وقد تراكمت له عشرات الأغاني التي حققت له نجاحات كبيرة. أما لاحقاً خلال العامين 1823 و1824 فنراه يعود إلى ذلك اللحن القديم ليحوله إلى رباعية للآلات الوترية محتفظاً لها بالعنوان القديم غير ساهٍ عن أنه إنما كان بموسيقاه هنا يعبر ومن دون كلام عن ذلك الحوار الرائع الذي تقيمه قصيدة كلوديوس بين صبية حسناء والموت المتربص بها. وربما يعود ذلك الاحتفاظ بالعنوان ومناخه المقابري إلى أن شوبيرت نفسه كان يشعر أنه يعاني وهو يشتغل على الرباعية من مقدمات لسكرات موت تحاصره، فتمكن من أن ينقل ذلك الشعور إلى الحركات الأربع التي تتألف منها الرباعية، محققاً بذلك واحداً من أكبر نجاحات فنه الموسيقي، بل ربما أيضاً وكما يؤكد النقاد والمؤرخون "واحدة من أعظم مقطوعات فن الحجرة" في تاريخ الموسيقى. ومن المعروف أن هذا العمل قد عزف للمرة الأولى في العام 1826 في حفلة منزلية خاصة، كما حال معظم أعمال شوبيرت التي تنتمي إلى النوع نفسه، لكنها لم تنشر إلا في العام 1931 وكانت ثلاث سنوات قد مرت على موت الموسيقي وهو في شرخ شبابه وهو موت من الواضح أن المقطوعة كانت قد أعلنت اقترابه بكل وضوح، فاعتبرت بالتالي واحدة من أكثر أعمال شوبيرت الأخيرة ذاتية.
على الأرض ما يستحق الحياة
"آه دعني لحالي، دعني أيها الهيكل العظمي المكتئب، فالحياة حلوة، مليئة بالمتعة/ دعني لحالي، هيا ارحل ودعني لحالي" تقول الصبية مخاطبة ملاك الموت المتجلي أمامها كهيكل عظمي، فيجيبها هذا "هاتي ناوليني يدك، أيتها الصبية ذات الحسن الأخاذ/ فأنا صديق لم أخذلك حتى الآن أبداً/ تشجعي هيا لأنك عما قريب/ سوف تجدين راحتك الأبدية بين ذراعيّ". عبر هذه العبارات المتبادلة تتحلق موسيقى شوبيرت خاصة في الحركة الثانية من الرباعية. غير أن الموت معبَّراً عنه موسيقياً لا يمثل هنا فقط بل إننا نجده على طول الحركات الأربع، إذ مع البداية التي تنطلق عنيفة حتى منذ الحركة الأولى ينقل شوبيرت إلى مستمعه ذلك الإحساس بالموت المخيم عليه مصحوباً بقدر كبير من المعاناة والاستسلام حتى وإن كان لا يفوت المستمع أن يجد نفسه شاهداً على صراع عنيف، إنما غير متكافئ في نهاية الأمر، مع الموت الذي يبدو في كل لحظة واثقاً أنه سينفذ هنا مهمته التي حضر من أجلها. ومن هنا، وحتى بعد لحن من نوع "سكيرزو" يقدم بواسطة ثلاث آلات يكاد يوحي بشيء من التكافؤ في الصراع يعطي بعض أمل في تأجيل الموت، ها هو ذا شوبيرت يختم الرباعية بلحن لن يحتاج المستمع إلى وقت طويل قبل أن يكتشف أن ثمة خلف إيقاعيته الواعدة، أنه إنما ينتمي إلى رقصة "التارانتيلا" الشعبية التي يفترض الريفيون أن من شأن اللجوء إليها طرد الجنون والموت... لكن خاتمتها تبدو محبطة وتنم عن الانتصار الأكيد لملاك الموت في نهاية المطاف. والحقيقة أن حضور هذا الملاك المهلك في الرباعية من أولها إلى آخرها جعل كثراً من النقاد يرون أن الرباعية تنتمي إلى الموسيقى ذات الموضوع المحدد "موسيقى البرنامج" أكثر من انتمائها إلى الموسيقى الخالصة كما ينبغي لموسيقى الحجرة أن تكون.
انطباع مخادع
ولئن كان منطلق الحركة الأولى يعطي ذلك الانطباع للوهلة الأولى على الرغم من أن "عنف" انطلاقتها يوحي فوراً بعكس ذلك، فإن الحركة الثانية سرعان ما تضع الأمور في نصابها. ففي نهاية الأمر نحن نعرف أن هذه الحركة بالذات هي التي بناها شوبيرت على اللحن السابق لـ"الليدر" المموسق لقصيدة كلوديوس، بمعنى أن هذه الحركة تدنو من القصيدة ومعانيها بصورة مباشرة دافعة الرباعية كلها إلى مبارحة نمط الموسيقى الخالصة للدخول في عالم الموسيقى ذات الموضوع. وبالتالي من المنطقي هنا أن تبدو موسيقى هذه الحركة بوضوح ومنذ البداية نوعاً من "مارش" مقابري يتقدم ملاك الموت خلاله خطوة خطوة، واصلاً في نهاية الأمر إلى أدنى ما يكون من ضحيته الرافضة صحبته محاولة إقناعه بتركها لحالها لأن الحياة لا تزال تعدها بسعادة قصوى فلماذا يتعين عليها الإذعان له؟ وكجواب مباشر على كل أمل يبدو لديها تتتابع الحركة هنا في خطوات واثقة غير مترددة. صحيح أن ثمة نوعاً من تنوع في التيمات بين "مازورة" موسيقية وأخرى لكنه تنوع يقود اللحن كله إلى الأمام من دون أن تختلف الأحاسيس التي تتركها كل "مازورة" في تنوعها.
رقصة شيطانية
ومن هنا حين ننتقل إلى الحركة الثالثة صحيح أننا سنبارح ذلك "المارش المقابري" ولكن لندخل في قلب ما يسميه الناقد والتر ويلسون كوبيت في تحليله العميق لهذا العمل، في نوع من "رقصة شيطانية" يتكشف رعبها بالتدريج بأسلوب يكاد يختصر الأسلوب المعهود لدى شوبيرت في أعماله السابقة، إذ يتتابع هنا في سكيرزو جديد، ذلك الاستخدام المنفرد لكل آلة بدءاً من آلة الكمان الأولى التي تنفرد بأدائها معطية المجال بين الحين والآخر لتدخل آلة الفيولا بالتناوب مع تدخل الكمان الثانية، قبل أن تعود الآلات الأربع للعزف معاً بهياج يبدو هنا مبرراً للوصف "الشيطاني" الذي أسبغه كوبيت على مجمل هذه الحركة الثالثة. وكوبيت نفسه يرى على أية حال أنه لئن كانت الحركة الثالثة هذه تبدو من دون خاتمة، "فلا شك أن الحركة الرابعة والأخيرة التي تختتم هذه الرباعية تشكل على أية حال نوعاً من خاتمة حقيقية للحركة التي سبقتها"، ولا شك أن كون هذه الحركة الختامية تتألف في مجموعها من لحن رقصة "التارانتولا" المستقاة موضوعاً وعنواناً من التعبير عن عقصة عقرب مميتة، يعطي الحركة موضوعها الذي يختصره النقاد بوصفهم هذه الحركة الأخيرة بأنها "رقصة الموت".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وصية فنية
من هنا، وعلى الرغم من الدعة الظاهرة للانسياب الذي يهيمن في لحظات معينة على هذا العمل من الواضح أن فرانز شوبيرت عرف كيف يضع في الحركات الأربع التي يستغرق عزفها معاً في العادة بين 25 و30 دقيقة، ما يشبه الأنطولوجيا المتكاملة لفنه الموسيقي، بشكل يبدو كوصية فنية ولكنه يبدو أيضاً كصرخة يأس يتوسل من خلالها نجدة من إحساسه بالموت. ومن هنا، حين استخدم السينمائي رومان بولانسكي هذه "الكوارتيت" لاحقاً في فيلمه الذي يدور من حول مناضلة شيلية كانت قد تعرضت للتعذيب زمن اعتقالات انقلاب بينوشيه، وكان تعذيب ضابط كبير لها يتم من طريق إصغائه بعمق لعمل شوبيرت هذا، عرف بولانسكي كيف يعطي تفسيراً للرباعية أتى مختلفاً عن التفسيرات السابقة ويغوص في جوهر تعبير شوبيرت الصحيح عما كانت عليه حاله حين كتب الرباعية بعمق يتساوق تماماً مع الغاية من كتابتها بعيداً من بعدها الجمالي الخالص.