"دائماً ما تلفت أواني القش انتباهي بألوانها وطريقة نسجها، خصوصاً العقد الداخلية، ومن حبي للتراث قررت تعلّم هذه الحرفة على الرغم من قلة العاملين بها في الوقت الحالي"، تقول سحر بدحة من قرية دير عمار، شمال غربي رام الله، التي بدأت بإتقان نسيج القش منذ 12 عاماً، باستخدام القش الصيني بداية، ومن ثم طوّرت ذاتها لتتعلّم عمل الأواني من القمح وغيره، بالنقوش ذاتها والرسومات القديمة والألوان، ولكن مع لمساتها الخاصة.
وتعلّق بدحة السلال وصينيات القش التي تم نسجها بدقة وبألوان وأشكال وأحجام مختلفة في ركن خاص، ليراها الزائر فور دخوله إلى مكان عملها، ويلحظ أيضاً أنها لم تكتفِ بتشكيل السلال والإكسسوارات، بل أدخلت التراث الفلسطيني من تطريز ونقوش وألوان في منتوجها، ليصبح صالحاً للاستخدام في الأعراس التقليدية والمناسبات المختلفة، إضافة إلى صناعة قطع صغيرة لتزيين المنزل أو تبادلها كهدايا في الأعياد أو الزيارات المختلفة.
لاحقاً، بدأت بزراعة القمح في أرض لعائلتها واستخراج القش منه، وتوفير فرص عمل لبعض نساء قريتها في استخراج القش وجمعه على شكل حزم في عملية تُسمّى بـ"تقشيش"، عدا عن محاولة نشر هذه الحرفة بين النساء في مختلف المدن والقرى الفلسطينية عبر إعطاء دورات تعليمية لجميع الفئات والأعمار.
"زرت كبيرات السن لتعلّم الحرفة منهن"
"بعد أن أنهيت دورة تدريبية لصناعة القش، قمت بزيارات عدة لسيدات كبيرات في السن بالبلدة لتعلّم مزيد من تقنيات النسج وصناعة العقد منهن، فهن أساس هذه الحرفة"، تقول نسرين علوان من بلدة سنجل، شمال شرقي رام الله، التي تعلّمت الحرفة حباً بالتراث ورغبة بصناعة أوانٍ قشية خاصة بها، لأن المنتجات الجاهزة في السوق مرتفعة الثمن، مضيفة أنها كانت تزين المنزل بها بادئ الأمر، ولكنها حوّلت الأمر إلى مشروع صغير ومصدر رزق بعدما رأت إقبالاً من المحيطين والأقارب والطلب المستمر من قبلهم.
وسيلة لملء وقت الفراغ قديماً
أما عن الحرفة قبل 60 عاماً، فتقول المسنّة رحمة إن عدداً كبيراً من نساء القرية كنّ ينسجن القش، فهو والتطريز والصوف من وسائل التسلية وإمضاء الوقت خلال ساعات النهار أو في مواسم التين والعنب والزيتون، حين يذهب الجميع إلى الحقول والأراضي الزراعية لقطف الفواكه الصيفية، مضيفة أن معدل إنتاج كل صينية كان يتطلب يومين فقط، ويتخلل ذلك تبادل الأحاديث والقصص والتباهي بالإنتاج بين النسوة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتشير رحمة إلى أن استخدام هذه الأواني كان ضرورة وليس فقط وسيلة للتزيين، إذ كنّ يضعن الخبز عليه والخضار، ويحفظن فيه الطعام أحياناً، ويستخدمنه في المناسبات الاجتماعية، خصوصاً الأعراس وفي حفلة الحناء وحين الرقص بملابس العروس قبل موعد الزفاف.
المواد الخام مرتفعة السعر وغير متوافرة
عادة ما تواجه السيدات العاملات في صناعة القش صعوبات جمة، ليس فقط الآثار الجسدية بسبب الجلوس المتواصل والتركيز ودقة العمل، بل على المستوى الاقتصادي من ناحية ارتفاع أسعار المواد الخام وقلة توافرها. فالصبغات الموجودة على سبيل المثال مرتفعة السعر ولا تفي بالغرض المطلوب، ما دفع سحر بدحة إلى استخدام صبغات الطعام، إضافة إلى قلة توافر أنواع القش وثمنها المرتفع، بسبب تراجع الزراعة وتعمّد بعض البائعين الغش أثناء توزين القش.
الصعوبات ذاتها تواجه علوان، فهي تبحث كثيراً قبل أن تجد قشاً وصبغات جيدة تشتريها بسعر معقول، والأمر ذاته بالنسبة إلى الصبغات، وعندما حاولت زراعة القمح لتجنّب ارتفاع الأسعار، وجدت أن الزراعة تتطلب كثيراً من المجهود وليست بالأمر السهل.
زراعة أوسع تعني قشاً أكثر
توافر القش قديماً لم يكُن صعباً، لأن الفلاحين كانوا يزرعون مساحات واسعة من القمح، وعند الحصاد يدعون النساء والفتيات في القرية إلى أخذ ما يردن من القش، إذ تقول رحمة إنهن كنّ يجلسن يتسامرن وكل واحدة منهن تستخرج ما تريد وما تستطيع حمله مجاناً من دون مقابل، حتى إن أسعار الصبغة المستخدمة لم تكُن مرتفعة كما اليوم.
وعادة، بعد الحصاد، كان الفلاحون يستخرجون القمح من السنابل، ومن ثم تتم عملية قطع سيقان القمح من العقدة العليا وجمعها في باقات صغيرة، ليتم لف كل مجموعة بخرقة قماشية ووضعها في الماء لفترة زمنية تختلف بحسب نوع القش، حتى تصبح ليّنة سهلة التشكيل، وحينها إما يُصبغ القش أو يُترك بلونه الطبيعي. أما الخطوة التي تلي ذلك، فهي تشكيل الدائرة الأولى التي تُعتبر بداية القطعة، وكل سيدة تختار أن تكملها كما تشاء بحسب الشكل المنويّ عمله.