تصاعد التوتر إلى درجة خطيرة خلال الأيام الأخيرة حول غزو روسي محتمل لأوكرانيا، فقد حشدت روسيا 100 ألف من قواتها على حدود جارتها السوفياتية السابقة واستدعت قواتها الاحتياطية وأعدت مستشفيات ميدانية، وقبل ساعات، حذر وزير الخارجية الأميركي والأمين العام لحلف "الناتو"، موسكو من عقوبات كاسحة لم يتخذها الغرب من قبل، في وقت حذر الرئيس الروسي ووزير خارجيته من عواقب وخيمة حال انضمام أوكرانيا إلى "الناتو" أو وجود قوات الحلف في المنطقة المجاورة لروسيا، لكن يمكن أن تندلع الحرب فعلاً على الرغم من كل مخاطر تداعياتها على أوروبا والعالم؟
تهديدات متبادلة
على الرغم من إعلان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن الرئيس جو بايدن من المحتمل أن يتحدث مباشرة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كجزء من جهد دبلوماسي محموم لدرء ما يخشى المسؤولون الغربيون أن يكون غزواً روسياً لأوكرانيا، فإن التحذيرات المتبادلة مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، عكست درجة مرتفعة من الأجواء المتوترة، ورغبة كل طرف في تحديد خطوطه الحمراء للطرف الآخر.
فمن ناحية، تشعر روسيا بقلق بالغ من وجود قوات "الناتو" على بعد نحو 500 كيلومتر فقط من موسكو، ولا ترغب أن تكون عاصمتها مهددة أو أن تصبح جارتها السوفياتية السابقة عضواً في حلف شمال الأطلسي، ولهذا يهدد لافروف باتخاذ إجراءات انتقامية لتصحيح التوازن العسكري الاستراتيجي، ومن ناحية أخرى يخشى بلينكن أن تختلق روسيا سبباً لتبرير عمل عسكري ضد أوكرانيا التي لا تشكل تهديداً ضد روسيا، وهو يهدد موسكو بإجراءات اقتصادية عالية التأثير امتنع الغرب عن اتخاذها في الماضي.
نذر الحرب
يتحدث كثير من المحللين العسكريين في واشنطن والغرب عموماً عن الأسباب المحتملة لبدء أخطر حرب في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، ويتوقعون أن تندلع في موسم عطلات أعياد الميلاد في نهاية هذا الشهر أو بعد رأس السنة الجديدة مع بداية يناير (كانون الثاني)، فالأراضي الموحلة الآن في جنوب شرقي أوكرانيا، ستكون قد تجمدت بحلول ذلك الوقت، ما يسمح للدبابات الروسية بالتوغل داخل الأراضي الأوكرانية، ويستشهد المراقبون بأن روسيا توشك على استكمال استعداداتها لهذا الهجوم، بعدما حشدت 100 ألف من قواتها البرية على الحدود الأوكرانية، وأنشأت مستشفيات ميدانية واستدعت قوات احتياطية، وهكذا أصبح من السهل أن تجد لنفسها ذريعة للغزو، بخاصة وأن العام الجديد كان في الماضي موعداً لاندلاع اشتباكات على الخطوط الأمامية في حرب أوكرانيا ضد الانفصاليين المدعومين من روسيا.
وعلى الرغم من أن أوكرانيا فشلت عام 2014 في وقف ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وظل إقليما دونيتسك ولوهانسك المعلنان كجمهوريات مستقلة من جانب واحد خارج سيطرتها، إلا أنها تعزو ذلك إلى وجود 6000 جندي فقط في أوكرانيا كانوا على استعداد للقتال في ذلك الوقت نتيجة عقود من الإهمال، ويرى القادة العسكريون في أوكرانيا، أن الصورة تغيرت الآن بعدما تضاعف الإنفاق العسكري ليصل إلى أربعة في المئة من إجمالي الناتج المحلي للبلاد، وزيادة قوات الجيش المدربة جيداً على القتال إلى 250 ألف جندي إضافة إلى 900 ألف من القوات الاحتياطية منهم نحو 300 ألف يتمتعون بخبرة في العمل على الخطوط الأمامية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلاوة على ذلك، منحت أميركا معدات بقيمة 2.5 مليار دولار لأوكرانيا في صفقات تشمل أجهزة اتصالات لاسلكية من نوع "هاريس"، وبطاريات رادار للكشف عن مصدر نيران العدو، وصواريخ "جافلين" المضادة للدبابات والدروع، شرط تخزينها بعيداً عن خط المواجهة، كما اشترت أوكرانيا من تركيا عضو "الناتو"، طائرات "بيرقدار" مسيرة قادرة على القتال.
هل يدافع "الناتو" عن أوكرانيا؟
غير أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، يريد أكثر من أسلحة جديدة، فهو يطمح في الانضمام إلى "الناتو"، وهذا من شأنه أن يلزم أميركا و29 دولة أخرى في الحلف بالدفاع عن أوكرانيا إذا تعرضت للهجوم من قبل روسيا، لكن هذا الانضمام يبدو بعيد الاحتمال، إذ إن الحلف الأطلسي لا يريد التزاماً واضحاً بالدفاع عن بلد هاجمته روسيا بالفعل، ولا يرغب في الانخراط في حرب قد تكون حمقاء وأثمانها باهظة على الطرفين إذا امتدت لتشمل أسلحة نووية في لحظة مجنونة من الصراع، فضلاً عن أن أوكرانيا لا تمثل أهمية استراتيجية كبيرة لواشنطن مثلما اتضح عام 2014، وهو أيضاً ما تؤكده تهديدات واشنطن التي اقتصرت على التلويح بعقوبات اقتصادية كاسحة قد تصيب الاقتصاد الروسي بالشلل، ولم تشمل أي تهديد بالدفاع عن أوكرانيا عسكرياً.
ومع ذلك، فإن أوكرانيا تحرص على تعاون قواتها مع حلف "الناتو" على أي حال، إذ أصبحت المناورات العسكرية المشتركة شائعة بشكل متزايد، بل إن السياسة الجديدة التي تطلبها كييف من القوات الأوكرانية، هي إتقان اللغة الإنجليزية بحلول عام 2025 لتعضيد هذا التعاون الذي ترغب في استمراريته.
ويستند كثير من التحسينات العسكرية الأوكرانية إلى فرضية أن روسيا تريد مواصلة تحديها لأوكرانيا، لكنها لا تريد أن تتحمل عبء حرب شاملة، وهو ما يفسر نوع المناوشات والاشتباكات البرية غير المنتظمة على الحدود، والتي كانت أوكرانيا تتحسن في خوضها منذ عام 2014، لكن المشكلة تتمثل في أن تفكير الكرملين ربما يتغير الآن استجابة لفرضية مستقبلية تقول، إن أوكرانيا سوف تواصل تحدي روسيا لدرجة لا يمكن التسامح معها، وتخشى موسكو أن تتخلى أوكرانيا المتقاربة مع الغرب، عن دورها التاريخي كمنطقة عازلة محايدة بين روسيا والغرب، وتستضيف بدلاً من ذلك قوة أميركية مسلحة بالنيران على بعد مسافة قصيرة من موسكو.
نطاق العمليات المحتمل
ومع ذلك، فإن نفاد صبر روسيا حيال ما تدعي أنه سلوك تهديدي، لا يعني أنها ترغب في التهام مساحات شاسعة من الأراضي الأوكرانية إلى الأبد، حيث يرجح فيودور لوكيانوف، محلل السياسة الخارجية المقرب من الكرملين في حديث لمجلة "إيكونوميست"، حدوث توغل سريع يشبه حرب روسيا مع جورجيا عام 2008، تليه محادثات من موقف قوة، وسيكون من السهل صنع ذريعة للقيام بالهجوم، وإذا تم الهجوم بقوة روسية كاسحة، فسوف تسحق القوات الأوكرانية بحسب تفسير لوكيانوف، استناداً إلى أنها أفضل تسليحاً ومدعومة بتنظيم لوجيستي أكثر سلاسة، تعززها قوة جوية من الطائرات المقاتلة الحديثة التي أثبتت قوتها في حملة قصف على سوريا، بينما لن تكون ترسانة أوكرانيا قادرة على إيقافها، كما أن معظم البحرية الأوكرانية اختفت مع حرب شبه جزيرة القرم عام 2014، ولم تتم إعادة بنائها منذ ذلك الحين.
وعلى الرغم من أن المحللين في واشنطن ليست لديهم شكوك حول قدرة روسيا على الغزو إلا أن شكوكهم تتعلق بنوايا بوتين في إعادة دمج أوكرانيا في روسيا الكبرى بتكلفة معقولة، ويقول ماثيو كرونيغ، نائب مدير مركز "سكوكروفت" للاستراتيجيات والأمن، إن الحرب الروسية في إقليم "دونباس" شرق أوكرانيا كانت مكلفة بالنسبة لروسيا خلال السنوات السبع الماضية، ولهذا قد يعتقد بوتين أنه سيكون من الأسهل غزو واحتلال نصف أوكرانيا حتى نهر "دنيبر" الذي يمر بكييف ويقسم أوكرانيا إلى نصفين.
وتتفق إيما آشفورد الباحثة بالمجلس الأطلسي في استبعاد احتلال روسيا لكل أوكرانيا ودمجها مع روسيا، ذلك أنها تعد ثاني أكبر دولة في أوروبا بعد روسيا من حيث المساحة، فهي أكبر من ألمانيا أو فرنسا أو بولندا، وربما يكون الهدف الأقل طموحاً لبوتين هو دمج جزء محدود من الأراضي الأوكرانية قد يمتد إلى شرق نهر "دنيبر"، بخاصة أن أوكرانيا لها أهمية تاريخية وسياسية كبيرة بالنسبة لروسيا ولم ينقسما إلى دولتين منفصلتين سوى فقط في نهاية القرن العشرين.
استبعاد الحرب
غير أن جيف هون الباحث السياسي كتب مقالاً تحليلياً في مجلة "فورين بوليسي"، استبعد فيه اندلاع الحرب، ورأى أن الوتيرة البطيئة لانتشار القوات الروسية تشير إلى تحول في مناطق القيادة الإقليمية العسكرية ولا يشير إلى تغيير في الانتشار الاستراتيجي يعكس تعزيزاً مفاجئاً استعداداً لشن هجوم، كما أن الهجوم الحقيقي كان سيأخذ عناية أكبر من التمويه والإخفاء الذي لم تتبعه القيادة العسكرية الروسية.
وقال هون، إن شن هجوم روسي هو احتمال أحمق لأسباب عدة، أولها أن الجيش الأوكراني يتمتع الآن بالخبرة والحداثة والروح المعنوية العالية، ولن تكون نزهة سهلة للجيش الروسي، وحتى لو نجحت روسيا في احتلال أوكرانيا، فسيكون الاحتلال باهظ الثمن وخطيراً وغير مثمر، وهي تجربة عانت منها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، وعانى منها الاتحاد السوفياتي في أفغانستان من قبل، ومن ثم، فإن تجدد الحرب ضد أوكرانيا لن يكون إلا على حساب روسيا، وسيؤدي إلى إهدار موارد ضخمة لا تستطيع موسكو تحمل إنفاقها، وسيعزل روسيا بشكل دائم عن أوروبا وأميركا، ويجعل أي تحرك غربي بشأن تخفيف العقوبات القائمة الآن على روسيا أمراً مستحيلاً على الرغم من أنه احتمال قد يصبح تدريجاً أكثر قابلية للتطبيق، ولهذا ليس لروسيا ما تكسبه من غزو أوكرانيا، بل ستخسر كثيراً.
غزو الجيران
وعلى الرغم من أن روسيا لديها تاريخ حديث في غزو جيرانها، من جورجيا عام 2008 إلى الحملات العسكرية في شرق أوكرانيا عام 2014، فإنها لم تنبع من فراغ، ولم تكن مجرد نزعة انتقامية أو توسعية خاصة بها، بل نتيجة حسابات خطأ أو سوء التقدير للعواقب، كما أنها تميزت بضبط النفس الاستراتيجي، إذ لم تحاول روسيا احتلال جورجيا بأكملها، وهي دولة أصغر بكثير من أوكرانيا من حيث المساحة وعدد السكان.
ولم يتغير شيء من شأنه أن يجعل الغزو المفتوح لأوكرانيا أكثر إغراء، حيث لا يوجد في أوكرانيا مناطق انفصالية أخرى يمكن لروسيا استغلالها، والجيش هناك أصبح أفضل تسليحاً وأكثر قدرة عما كان عليه عام 2014، وفي حين أن روسيا كانت عدوانية في ما تسميه محيطها القريب من الدول السوفياتية السابقة، لكنها لا تزال تعمل بقدر من ضبط النفس، والتحركات المحسوبة للحفاظ على منطقة نفوذها، وهذا لا يعني أن أفعالها مبررة أخلاقياً أو تتماشى مع القانون الدولي، لكنها كانت أفعال مفهومة بحسبما يرى البعض.