على وقع الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة في لبنان والتي فاقمتها القيود المرافقة لتفشي وباء "كوفيد-19" ثم انفجار مرفأ بيروت المروع صيف عام 2020، فقد كثيرون القدرة على العيش في العاصمة وبات البعض غير قادر على تحمل التكاليف الآخذة في الارتفاع.
وبذلك، بات النزوح العكسي إلى القرى والبلدات الريفية بمثابة طوق نجاة لعديدين بصفته الخيار المتاح للحدّ من الأعباء المالية ولإعادة نسج العلاقة المنسية مع أرض الأجداد وإرثها الزراعي.
لا أرقام
في بلد لم يجر فيه أي إحصاء رسمي منذ عام 1932، يتوافر القليل من البيانات بشأن التحوّل الديموغرافي في الحياة الريفية.
وبحسب شركة "الدولية للمعلومات"، انتقل أكثر من 55 ألف شخص إلى المناطق الريفية، ويرتبط ذلك في الغالب بتداعيات الانهيار الاقتصادي الذي صنّفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ عام 1850.
وبحسب برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية في لبنان، فقد أبلغ بعض رؤساء البلديات ورؤساء اتحادات البلديات عن زيادة في عدد الأشخاص المنتقلين إلى الأرياف، في غياب أدلة بالأرقام.
ولا يرجح البرنامج حدوث هجرة عكسية كبيرة نحو المناطق الريفية. وتشرح تالا قمورية من وحدة التحليل والسياسات الحضرية في البرنامج لوكالة الصحافة الفرنسية أن "من المتوقع أن يؤدي انعدام خطط التنمية الريفية وطابع المركزية الشديدة للبنان إلى ردع التحضر المضاد على المدى الطويل".
خلال العقود الماضية، انتقل كثيرون من سكان القرى، لا سيما الشباب، إلى المدن الكبرى حيث تتوافر فرص أكبر في مجالات التعليم والعمل والخدمات التي شكلت ركيزة أساسية في الاقتصاد، مقابل إهمال للزراعة التي لا توفر دخلاً ثابتاً في غياب سياسات دعم رسمية.
لا معنى للبقاء
في أكتوبر (تشرين الأول)، انتقلت ثريا إلى مسقط رأسها قرية سيناي في جنوب البلاد للإقامة في منزل من طابقين بناه والدها.
وُلدت ثريا في أحد أحياء بيروت ونشأت فيه. لكن سلسلة من الأزمات المتلاحقة جعلت الحياة في العاصمة لا تُحتمل ودفعتها إلى بدء اختبار نمط جديد من العيش في الريف بعيداً من ضوضاء المدينة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقول الشابة البالغة من العمر 28 سنة لوكالة الصحافة الفرنسية وسط أرض خصبة مزروعة بأشجار الأفوكادو في جنوب لبنان "بات العيش في المدينة بائساً جداً".
وقد اتخذت قرارها بعدما طالبها مالك المنزل، حيث كانت تقطن في بيروت، بمضاعفة بدل الإيجار الشهري أربع مرات، في حين أن فواتير الاشتراك في مولد الكهرباء وكلفة النقل العام تتضخم بشكل يفوق القدرات الشرائية للسكان.
وتروي، "وجدت أن لا معنى لبقائي في بيروت (وسط) ظلام دامس والقمامة المنتشرة في كل مكان وانعدام الشعور بالأمان"، معتبرة أن المدينة بدت "عدائية بشدة لدرجة جعلتها غير مألوفة".
وتضيف "العنف الهادئ في حياة المدينة يستنزف منك الطاقة والمال والإنفاق... بات الأمر يفوق القدرة على الاحتمال".
والآن، حين لا تعمل عن بعد لمصلحة منظمة غير ربحية، تقضي الشابة معظم وقتها في مزرعة عائلتها وتكتشف كيف تبدو النباتات وهي عطشى وكيف تغدو الثمار حين تنضج.
وعبر موقع "يوتيوب"، تتعلّم تقنيات تشذيب الأشجار وتتواصل مع المزارعين المحليين للحصول على نصائح بشأن سبل الاهتمام بالأرض الزراعية التي تأمل بأن تتولى إدارتها ذات يوم.
وتشرح، "نحن بصدد زرع موسم جديد وأنا متحمسة لذلك... أود أن أتابع الزرع من غرس البذور حتى الحصاد، أن أكون حاضرة في المراحل كلها".
زراعة وانتماء
في حقل قرب قرية كفرتبنيت في جنوب لبنان، ينثر حسن طراد (44 سنة) بذور الصعتر. وقد تخصص بالزراعة بعدما أمضى 18 عاماً في بيروت شعر خلالها بـ"الاختناق"، على حدّ قوله.
ويقول "شكّل انتقالي إلى القرية هروباً من ثلاث أزمات"، بدءاً من تكوم النفايات في شوارع بيروت وضواحيها ثمّ الانهيار الاقتصادي فتفشي فيروس كورونا.
بدأ حسن، الذي يعمل عن بعد كمصمم رسوم في صحيفة محلية يومية، الانتقال جزئياً إلى دبين، قريته الجنوبية، بدءاً من عام 2016، قبل أن يستقر نهائياً فيها بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) 2020. ويدير فيها أحد مشاريعه الزراعية أيضاً.
في الجنوب، يدفع حسن حالياً نصف قيمة الأقساط المدرسية التي كان يتكبدها في بيروت لتعليم ثلاثة من أطفاله الأربعة. ويوضح "استغللت الأزمة واقتربت أكثر من العمل في الأرض والزراعة... وبات لديّ انتماء أكبر لقريتي".
جروح وارتباط
بعدما دمّر انفجار المرفأ منزله وأصابه بجروح بليغة، وجد الكاتب إبراهيم نعمة في منزله في قرية بشمزين (شمال) مساحة للتعافي.
في مقال نشره أخيراً، كتب الشاب (35 سنة)، "الانفجار الذي جعلني أفقد الاتصال بأرضي قادني في نهاية المطاف إلى إدراك مدى ارتباطي بأرضي".
وفي يونيو (حزيران)، غادر بيروت ليقيم في شقة صغيرة قرب البحر، تبعد عشرين دقيقة عن مسقط رأسه حيث حقول زيتون عائلته.
وعلى الرغم من أنه ليس مستعداً بعد للالتزام كلياً بأسلوب حياة القرية، إلا أنه بدأ يدرك دوره في حماية الإرث الزراعي لأجداده.
ويقول "أنا مرتبط (بالأرض) هنا ومتجذّر فيها... لدي أشجار الزيتون وسيتعين عليّ في يوم من الأيام الاعتناء بها".