تزداد سخونة الأجواء بين موسكو والغرب، على وقع احتمالات غزو روسي لأوكرانيا، وتشبث من كييف للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، ما يثير "استفزاز" جارتها الشرقية، ما صعد المخاوف الدولية في شأن تفاقم الصراع، الذي لم ينته منذ عام 2014، على خطوط التماس الروسية الأوروبية وتداعياته المستقبلة السياسية والأمنية.
ومع عدم اكتمال محاولات التهدئة التي بدت في الساعات الأخيرة، حيث إعلان الكرملين، اليوم الجمعة، أن روسيا والولايات المتحدة تعملان على تنظيم اجتماع عبر الفيديو بين الرئيسين فلاديمير بوتين وجو بايدن (لم يتم تحديد موعده النهائي بعد)، لا تزال الحرب الكلامية والتحذيرات المتبادلة بين الطرفين في الأيام الأخيرة مخيمة على المشهد، عاكسة في الوقت ذاته ما وصلت إليه العلاقات بين البلدين من درجة توتر غير مسبوقة منذ عقود.
وحذر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، والأمين العام لحلف "الناتو" ينس ستولتنبرغ، موسكو من عقوبات كاسحة لم يتخذها الغرب من قبل، وذلك في وقت شدد وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، على أن أي رد أميركي على "احتمالات غزو روسي لأوكرانيا" سيتم بالتنسيق مع المجتمع الدولي.
وفي المقابل، تنفي روسيا باستمرار وجود أي مسعى في هذا الاتجاه، وتتهم أوكرانيا وحلفاءها الغربيين بزيادة "الاستفزازات"، مع التمسك في الوقت ذاته بالتحذير من عواقب وخيمة حال انضمام كييف إلى "الناتو"، أو وجود قوات الحلف أو نشر أسلحة على حدود جارتها السوفياتية السابقة، الأمر الذي اعتبره الرئيس الروسي "تجاوزاً للخطوط الحمراء" بالنسبة إلى بلاده، كما طالب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف نظيره الأميركي بـ"ضمانات أمنية" في شأن حدود روسيا.
"مخاوف غربية"
على وقع المخاوف الروسية المستمرة من تطور العلاقات العسكرية بين "الناتو" وأوكرانيا، وتخوف الأخيرة التي تخوض حرباً منذ عام 2014، مع انفصاليين موالين لموسكو في جزئها الشرقي، من مطامع روسية عسكرية متزايدة، كان آخر فصولها التنديد بحشد موسكو لما يقرب من 100 ألف جندي استعداداً لغزو أراضيها، تزداد المخاوف الغربية في شأن دور روسي واسع في المنطقة على حساب المصالح الغربية.
وبحسب ما كتبه ديفيد إغناتيوس، في صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، ففي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، توصلت وكالات الاستخبارات الأميركية إلى أن روسيا كانت تحرك قواتها نحو الحدود الأوكرانية، وأنها كانت تضع خططاً سرية حول كيفية استخدامها، ما عزز المخاوف بقرب غزو روسي محتمل لجارتها السوفياتية السابقة.
وقال إغناتيوس، إن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية قلقة من أن منطقة الصراع المحتملة "لا تبدو وكأنها مجرد الجزء الشرقي من أوكرانيا"، الذي احتله الانفصاليون المدعومون من روسيا عام 2014، الذي اقتربت منه القوات الروسية في أبريل (نيسان) الماضي، بل على امتداد مساحة أكبر بكثير من البلاد، وأن موسكو لم تحد عن موقفها على الرغم من تحذيرات مدير "سي آي إي" وليام بيرنز، خلال زيارته موسكو أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، باستهداف الاقتصاد الروسي وتبديد أي آمال للتقارب مع الغرب.
مع إصرار واشنطن على روايتها بأن موسكو نشرت نحو 100 ألف جندي بالقرب من الحدود الأوكرانية، أوضح إغناتيوس، أن مسؤولي الإدارة الأميركية يتوقعون الأسوأ بزيادة هذه الأعداد العسكرية، ما يستدعي التخطيط مع حلف الناتو لمواجهة الطوارئ، وذلك في وقت تتباهى روسيا بتحالفها العسكري "غير القابل للكسر" مع بكين.
ويتحدث بوتين عن علاقة موسكو الأبدية مع كييف بنفس الطريقة التي يطالب بها القادة الصينيون بإعادة توحيد الصين مع تايوان، مستشهداً بما كتبه الرئيس الروسي بوتين، في يوليو (تموز) الماضي، بأن "أوكرانيا وروسيا لا تنفصلان".
ونقل الكاتب عن جون هيربست، السفير الأميركي السابق لدى أوكرانيا، الذي يعمل الآن في مركز "المجلس الأطلسي"، أن "الطريقة التي فعلتها روسيا بتعزيز القوات لم تكن شفافة، تم إخفاؤها وتم إجراؤها جزئياً في الليل"، مجادلاً في الوقت ذاته "بأنه على الرغم من جرأة بوتين في تنفيذ هذه الخطة الجديدة السرية جزئياً، فإن لعبته خدعة". وتابع، "يحب بوتين ممارسة ألعاب العقل مع الغرب، يرسل قوات إلى الجبهة، ثم يلوم واشنطن والغرب على استفزازه".
ثم يعود إغناتيوس، ويقول إنه "ربما يعد بوتين حيلة يزعم فيها أن القوات المدعومة من روسيا تعرضت لهجوم من قبل أوكرانيا، كذريعة لاتخاذ إجراء عسكري"، وهو الأمر الذي قال عنه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين، الشهر الماضي، "إن الرئيس الروسي قدم مثل هذه المزاعم عندما غزا أوكرانيا في عام 2014، وإن هذا جزء من كتاب قواعد اللعبة الخاص به".
من جانبه، ووفق ما كتبه باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية الفرنسي، في صحيفة "لوبارزيان"، فإن الرئيس الروسي يسعى قبل كل شيء إلى إثبات وجوده، بخاصة بعد الاهتمام الذي أولته الولايات المتحدة أخيراً للصين، موضحاً "يتلاعب بوتين بأعصاب المجتمع الدولي بخاصة الأوروبيين، في افتعال الأزمات والتدخل في أخرى"، وتابع، "من الصعب معرفة طبيعة الانتشار العسكري الروسي على الحدود الأوكرانية، وعلى الرغم من أن الجميع يعلم نوايا موسكو في أوكرانيا، لكنهم يجهلون خطتها لتحقيق أهدافها في هذا البلد"، مضيفاً أنه من مصلحة روسيا الحفاظ على هذا الغموض، لتجنب رد فعل المجتمع الدولي.
خيارات الغرب في أوكرانيا
على ضوء التوتر المتزايد بين موسكو وواشنطن، أفادت شبكة "سي أن أن"، وصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركيتين، بأن من بين الخيارات التي تدرسها إدارة الرئيس الأميركي لمواجهة الطموحات الروسية، إرسال مستشارين عسكريين ومعدات جديدة، بما في ذلك أسلحة وصواريخ متطورة إلى أوكرانيا.
وتقول تقارير إعلامية، إن المسؤولين الأميركيين يناقشون مع حلفائهم الغربيين احتمالات تصعيد حملة العقوبات الاقتصادية التي تطال روسيا، وتشديدها حال غزو الأخيرة لأوكرانيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأخيراً أضاف المشرعون الديمقراطيون والجمهوريون تعديلات مقترحة على قانون تفويض الدفاع الوطني لعام 2022، من شأنها أن تعالج "الاستفزازات" الروسية الأخيرة، لكنهم لم يوقعوا بعد على نسختها النهائية. وجاء في تعديل اقترحه مسؤول العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ بوب مينينديز، نص يشير لفرض عقوبات جديدة كبيرة من قبل الرئيس جو بايدن على كبار المسؤولين في الكرملين، بمن فيهم الرئيس بوتين.
وفي وقت متأخر من أمس الخميس، قال الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، إن واشنطن تتبع مؤشرات وتحذيرات حول نشاط عسكري روسي بالقرب من أوكرانيا كافية لإثارة "كثير من القلق"، وإن الخطاب الروسي حدته تتزايد في ما يبدو.
وبينما رفض ميلي التكهن بطبيعة الخيارات التي قد تدرسها واشنطن في حال حدوث غزو روسي، لكنه شدد في الوقت ذاته على أهمية سيادة أوكرانيا بالنسبة إلى واشنطن وحلف شمال الأطلسي.
وقال ميلي، خلال رحلة جوية من سول إلى واشنطن، "تتعرض مصالح أمنية وطنية مهمة للولايات المتحدة والدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي للخطر هنا إذا اتخذ الروس خطوة صريحة بعمل عسكري عدواني في دولة مستقلة منذ 1991".
هو الآخر، قال وزير الدفاع الأوكراني أوليكسي ريزنيكوف، اليوم الجمعة، أمام البرلمان، إن روسيا حشدت أكثر من 94 ألف جندي بالقرب من حدود بلاده، وربما تستعد لهجوم عسكري واسع النطاق في نهاية يناير (كانون الثاني). موضحاً أن أوكرانيا "لن تقدم على أي تصرف استفزازي، لكنها مستعدة للرد إذا شنت روسيا هجوماً".
وتابع ريزنيكوف، "مخابراتنا تحلل كافة التصورات بما فيها الأسوأ. وتشير إلى أن احتمال تصعيد واسع النطاق من جانب روسيا قائم. والوقت الأكثر ترجيحاً سيكون بحلول نهاية يناير".
وحثت أوكرانيا حلفاءها في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي هذا الأسبوع على إعداد حزمة عقوبات قاسية لردع روسيا ومنعها من شن هجوم.
دعم "أوثق" لأوكرانيا
في ضوء الخيارات المتاحة بالنسبة إلى الغرب في مواجهة روسيا بأوكرانيا، كتب كل من مايكل ماكفول وأوليكسي هونكاروك، الباحثان في معهد "فريمان سبوغلي" للدراسات الدولية بجامعة ستانفورد، في صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، إن توثيق العلاقة بين الغرب وأوكرانيا قد يكون أنسب رد على تهديدات روسيا لكييف، موضحاً أن "الوقت حان لاستراتيجية أميركية وغربية جديدة تجاه روسيا، إذ يجب تبني مزيد من الدبلوماسية القسرية، ويجب أن تكون إيماءات التعاون مصحوبة بالتزامات موثوقة باتخاذ إجراءات قسرية في حال فشل التعاون".
وذكر الباحثان، أنه "من الواضح أن الرئيس الروسي لا يريد علاقة مستقرة وقائمة مع الغرب والولايات المتحدة، إذ يعتبرهم أكبر عدو لروسيا، ويرى أن إدارة بايدن تسعى إلى إضعاف موسكو، وإطاحة نظامه. وعليه فلا يمكن أن يكون هناك تعاون مستقر وقائم، بل فقط صراع دائم".
الأمر، وفق الكاتبين، يتطلب من واشنطن، في ما يتعلق بالأزمة الأوكرانية الحالية، عدداً من الخطوات، منها تنشيط الدبلوماسية لإنهاء الحرب في شرق أوكرانيا، والإصرار على الانضمام رسميا إلى أوكرانيا وروسيا وألمانيا وفرنسا، لتنشيط محادثات نورماندي المكلفة إنهاء الحرب، فضلاً عن الإعلان الآن، وليس بعد تدخل عسكري آخر، حزمة من العقوبات الشاملة الجادة التي يتعين تنفيذها، حال جرى العدوان.
ويتابع الكاتبان، "يجب كذلك على الإدارة الأميركية، والحلفاء في الناتو تعميق العلاقات العسكرية مع كييف، بما في ذلك تقديم حزمة مساعدات عسكرية جديدة موسعة لخلق قدرات أكبر لحماية البنية التحتية الحيوية والدفاع ضد التهديدات الجوية والبحرية، فضلاً عن صياغة استراتيجية أكثر تطوراً وشمولية وطويلة الأجل، لتعزيز الديمقراطية وتحفيز النمو الاقتصادي في أوكرانيا".
وكان وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا قد قال، إن على أوروبا إظهار قوتها الآن، لتجنب الاضطرار إلى إظهارها لاحقاً. معتبراً أن تحركات القوات الروسية تشير إلى عمل محتمل ضد بلاده. وذلك في وقت دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي روسيا إلى مفاوضات مباشرة بهدف وقف ما سماها الحرب في شرق البلاد.