كشف تجمع آلاف المهاجرين على حدود بيلاروس مع بولندا قبل أسابيع عن الحسابات السياسية بين الدول الأوروبية وكيف حاول الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو ابتزاز دول الاتحاد الأوروبي كي تستجيب برفع العقوبات عن بلاده، لكن رفض بولندا ودول الاتحاد لمزيد من المهاجرين عبر استخدام خراطيم المياه والغازات المسيلة للدموع ضدهم، تناقض مع قوانين اللجوء ومبادئ حقوق الإنسان الدولية، ما لطّخ سمعة أوروبا وكشف عن نفاق الساسة الأوروبيين الذين دفعوا مليارات الدولارات لتركيا وليبيا للإبقاء على المهاجرين بعيداً من أوروبا، وهي سياسة هجرة اتبعتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب ويسير عليها الآن الرئيس الحالي جو بايدن... فهل انتهت حرب المهاجرين؟
المهاجرون سلاح
في عالم اليوم المترابط، تستمر الهجرة الدولية في النمو عبر تدفق المهاجرين من كل أنحاء العالم إلى أوروبا وأميركا والغرب عموماً بحثاً عن حياة أفضل لأنفسهم ولأسرهم، بينما يبحث آخرون عن اللجوء بسبب الصراع أو القمع السياسي أو الخوف من الاضطهاد في بلدانهم الأصلية، لكن الهجرة البشرية أصبحت سلاحاً يستخدم بكثافة أكبر ضمن ترسانة العديد من الجهات والدول التي تسعى إلى وسائل غير تقليدية لزيادة التأثير الإقليمي وتحقيق أهدافها عن طريق الابتزاز وسياسات الإكراه والصفقات القذرة.
أحد أبرز هذه النماذج تكشّف بوضوح من خلال استخدام بيلاروس خلال الأيام الأخيرة المهاجرين المستضعفين كورقة مساومة ضد الاتحاد الأوروبي عبر منح آلاف المهاجرين ومعظمهم من العراق وكردستان، تأشيرات سياحية وتنظيم رحلات انتقالهم عبر وكلاء سفر للدفع بهم على حدود بولندا، عضو الاتحاد الأوروبي كي يطلبوا حق اللجوء هناك.
وبحسب اتهامات الأوروبيين، فإن لوكاشينكو يستخدم المهاجرين كسلاح حرب بشكل قانوني ضد الدول الأوروبية ويهددها بأزمات داخلية بين أحزابها الحاكمة، ويستغل قوانين الهجرة في الاتحاد الأوروبي للانتقام من فرض عقوبات على بلاده بسبب تزويره الانتخابات وقمعه لحقوق الإنسان وإجباره طائرة ركاب أوروبية على الهبوط في بلاده، لاعتقال صحافي معارض.
استغلال القانون
ما جعل بيلاروس مختلفة في هذه الحملة، هو أنه لم يكن هناك تدفق طبيعي للمهاجرين، ولكنه تدفق تم تدبيره من قِبل الحكومة نفسها، باستخدام شبكات المعلومات والتعامل مع عصابات إجرامية في تسهيل الهجرة، واستخدام شركات كواجهة لعصابات تهريب البشر بعد إعلان حكومة مينسك عبر الإنترنت، أنها مستعدة لإصدار تأشيرات سياحية جماعية قصيرة الأجل لأسباب واهية، ونقل أشخاص من المطار إلى الحدود الليتوانية أو البولندية.
وسواء كان هؤلاء المهاجرون يفرون حقاً من الاضطهاد أو يبحثون ببساطة عن حياة أفضل، فقد خطط العديد منهم لطلب اللجوء ووضعوا ثقتهم في الإجراءات القانونية، لا سيما في ألمانيا، التي تمنح امتيازاً لحقوق الأشخاص المعرضين للخطر، وهو ما جعل بيلاروس تستغل هذه التطلعات وتستخدم القانون كسلاح، لدرجة أن المسؤولين فيها كانوا ينصحون المهاجرين بكيفية تقديم قضية اللجوء بمجرد وصولهم إلى أراضي الاتحاد الأوروبي.
صُنع في الغرب
وعلى الرغم من أن بيلاروس وداعميها في موسكو ينفون التخطيط لمؤامرة من أجل زعزعة استقرار أوروبا، إلا أن الأدلة التي كشفها الأوروبيون تُظهر أنها عملية مدبرة لاستخدام المهاجرين كبيادق في الابتزاز الدبلوماسي، وصفتها إيلفا جوهانسون، المفوضة الأوروبية للشؤون الداخلية، بأنها طريقة جديدة لاستخدام البشر في عمل عدواني.
لكن ما فشل قادة الاتحاد الأوروبي في الاعتراف به هو أن لوكاشينكو الذي صنع أزمة إنسانية لإجبار الأوروبيين على الجلوس إلى طاولة المفاوضات وحملهم على رفع العقوبات، كان يعتمد في حقيقة الأمر على آليات هجرة أصبحت شائعة في أجزاء كثيرة من العالم، بل ساعد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في صُنعها وتشكيلها، فعندما اندفعت حشود من السوريين الفارين من الحرب عبر تركيا نحو الاتحاد الأوروبي في عام 2015، هدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال اجتماع متوتر مع الاتحاد الأوروبي بوضع اللاجئين في حافلات وإغراق أوروبا بالمهاجرين إذا لم تدفع الكتلة مليارات اليورو كمساعدات مالية.
وفي محاولة يائسة لإنهاء الأزمة التي شهدت تقدم 1.3 مليون شخص بطلبات لجوء في أوروبا ذلك العام، اختارت القارة العجوز الدفع، والاستعانة بشكل فعّال في إدارة شؤون اللاجئين، بزعيم استبدادي لديه سجل سيء في مجال حقوق الإنسان بحسب ما تقول صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، ومع ذلك ظل أردوغان يكرر التهديد بشكل دوري في عامَي 2019 و2020 في تأكيد متكرر بأن الهجرة أصبحت هراوة سهلة الاستخدام ضد بروكسل.
تركيا وليبيا وغيرهما
منحت هذه الصفقات تركيا وغيرها من الدول، القدرة على استخدام الهجرة كشكل متواصل من أشكال الابتزاز، فبعدما وافق الاتحاد الأوروبي على دفع ست مليارات يورو سنوياً إلى تركيا (حوالي 6.8 مليار دولار) لاستضافة اللاجئين على أراضيها، هدد أردوغان بإرسال 3.6 مليون لاجئ إلى أوروبا عندما بدأ الاتحاد الأوروبي في انتقاد سير العمليات التركية في شمال سوريا ووصفها بأنها غزو. وفي النهاية خضع الاتحاد الأوروبي على النحو الواجب، وخفّف الحظر المخطَط له على مبيعات الأسلحة لأنقرة ووصف "الغزو" بأنه عمل عسكري أحادي الجانب.
وفي جنوب البحر المتوسط، أطلق الاتحاد الأوروبي جهداً يربط مساعدات التنمية لبلدان العبور الرئيسة في أفريقيا، بالتعاون في السيطرة على الهجرة. ففي عام 2008، أبرم معمر القذافي صفقةً مع إيطاليا وافقت بموجبها الحكومة الإيطالية على دفع 5 مليارات دولار كتعويضات لليبيا لوقف تدفق الأفارقة المتجهين شمالاً إلى أوروبا. وعندما اندلعت ثورة كبيرة في ليبيا وأطيح بالقذافي، زادت الهجرة بمعدلات سريعة من شمال أفريقيا إلى أوروبا، وبخاصة عبر جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، ففي صيف عام 2011، وصل 48000 مهاجر إلى الجزيرة، وبحلول عام 2014، ارتفع العدد إلى أكثر من 170000 كان من بينهم أشخاص من كل أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اختاروا القيام بالرحلة الخطرة عبر البحر المتوسط انطلاقاً من ليبيا بسبب سمعتها كبوابة غير خاضعة للرقابة نحو أوروبا.
وسرعان ما رأى أمراء الحرب وقادة الميليشيات في الحرب الأهلية الليبية فرصة سانحة لهم، حيث وقّعت "حكومة الوفاق الوطني" في عام 2017 صفقةً لوقف الهجرة، حصلت فيها على مزيد من الاعتمادات والمعدات، لكنها احتجزت المهاجرين الأفارقة في معسكرات الاعتقال الليبية التي وصفتها "منظمة العفو الدولية" بـأنها "جحيم" لظروفهم غير الصحية والخطيرة، بحسب ما قالت مجلة "فورين أفيرز" الأميركية.
كما أبرم الاتحاد الأوروبي صفقات مماثلة مع دول أفريقية أخرى ما أدى إلى تعميق المشاكل الداخلية في بلدان العبور والبلدان الأصلية، حيث توصل تحقيق أجرته وكالة "أسوشيتد برس" في عام 2019 إلى أن مبالغ ضخمة من الأموال الأوروبية تم تحويلها إلى شبكات متداخلة من رجال الميليشيات والتجار وأفراد خفر السواحل الذين يستغلون المهاجرين، وأنه في بعض الحالات، علم مسؤولو الأمم المتحدة أن شبكات الميليشيات التي اتُهمت بالتعذيب والابتزاز وسوء المعاملة ضد المهاجرين في مراكز الاحتجاز كانت تحصل على المال من أوروبا.
وفي العام الماضي، هددت إيطاليا بوقف مساعدات التنمية عن تونس إذا لم تتفق على خطة لوقف الهجرة. وفي النيجر، ذكرت تقارير أن فرنسا مولت زعيماً سابقاً للمتمردين للسيطرة على تدفقات المهاجرين.
أميركا وأستراليا أيضاً
ولم تكن السياسة الأوروبية استثناءً، ففي عام 2019، قطعت إدارة ترمب المساعدات عن غواتيمالا وهندوراس والسلفادور بسبب التساهل في السماح بهجرة مواطني أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة، ولم تستعيد هذه الدول المساعدات المالية، إلا بعدما وافقت الدول على صفقات تسمح للولايات المتحدة، بإعادة المهاجرين الذين يسافرون شمالاً عبر أميركا الوسطى إلى تلك البلدان.
وقبل يومين، وافقت الحكومتان الأميركية والمكسيكية على استئناف سياسة "ابق في المكسيك" المثيرة للجدل والتي وضعها دونالد ترمب عام 2019 وعلّق تفعيلها جو بايدن بعدما أصبح رئيساً، حيث تقضي هذه السياسة بإرسال طالبي اللجوء الذين يتطلعون إلى دخول الولايات المتحدة عبر حدودها الجنوبية مرة أخرى إلى المكسيك أثناء تقييم السلطات الأميركية لطلباتهم مقابل ترتيبات مالية أميركية تُخصَص للمكسيك، وهي سياسة كان بايدن وصفها بأنها "غير إنسانية" عندما استخدمتها إدارة ترمب لإعادة أكثر من 60 ألف طالب لجوء عبر الحدود إلى المكسيك، حيث غالباً ما كانت العصابات الإجرامية تستغلهم، وظل كثيرون منهم ينتظرون لشهور في حالة من عدم اليقين في المكسيك قبل تحديد مصيرهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبالمثل، عندما أصبحت الحكومة الإندونيسية غاضبة من الضغط الأسترالي لإبداء الرأفة مع استراليَين يواجهان عقوبة الإعدام بتهمة الاتجار بالمخدرات في عام 2015، هددت جاكارتا، كانبرا، بوقف التعاون في مكافحة الهجرة عبر بحر تيمور وإطلاق العنان لـتسونامي بشري من المهاجرين، ما يؤكد دائماً أن المهاجرين يمكن أن يكونوا ورقة مساومة إضافية في العلاقات الدولية.
270 مليون مهاجر
ولم يكن استخدام المهاجرين كسلاح فعّال أمراً مستحدثاً، فقد استخدمته بعض الحكومات الاستبدادية في الماضي، فعندما بدأت موسكو السماح لليهود بالهجرة من الاتحاد السوفياتي في عام 1971، سمحت عمداً للمجرمين الذين ادعوا زوراً أنهم يهود، بالانضمام إليهم، كما استخدم الزعيم الكوبي فيدل كاسترو ذات التكتيك عندما فتح موانئ بلاده لفرار 125 ألفاً من الكوبيين يبحثون بصدق عن الحرية والفرص الأفضل خلال أزمة مارييل عام 1980، لكن نظام كاسترو أرسل معهم مجرمين مدانين، ومرضى نفسيين ضمن هذه الهجرة الجماعية. لكن منذ نهاية الحرب الباردة، اتخذت الهجرة بعداً سياسياً قوياً في الديمقراطيات المتقدمة حيث دفعت الحروب الأهلية والمجاعات والاضطرابات الأخرى، من البلقان والعراق وسوريا إلى أفغانستان، أعداداً غير مسبوقة من الناس إلى البحث عن ملاذ في الاقتصادات الأكثر ثراءً في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية حتى وصلت أعداد المهاجرين في عام 2019 إلى 270 مليون مهاجر حول العالم وفقاً لصندوق النقد الدولي، بعدما سجل نحو 135 مليوناً في عام 1990.
حرب متواصلة
وعلى الرغم من انتهاء الأزمة مع بيلاروس، إلا أنه من غير المرجح أن ينتهي تكتيك استخدام المهاجرين كسلاح حتى لو كان من المرجح أن تتبعه حكومات قليلة في المستقبل القريب، فقد سهّل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى حد كبير هذه السياسة من خلال تعاطيهما مع تهديد تدفقات المهاجرين لابتزاز المليارات من المساعدات والتساهل السياسي. وبما أن العديد من الدول الأوروبية وكذلك الولايات المتحدة، تكافح مع الحركات الشعبوية واليمينية التي تتوافق حول المشاعر المناهضة للهجرة، فمن غير المرجح أن يزول الضغط على قادة هذه الدول لدفع أموال لحكومات أو ميليشيات من أجل الحفاظ على تدفق المهاجرين عند مستوى يمكن إدارته.
نفاق الغرب
ومع استمرار استعداد أميركا وأوروبا لاستخدام الدول الخارجية "للقيام بعملها القذر" بشأن الهجرة، فإنها تخاطر بتقويض القيم التي يُفترض أن المجتمعات الغربية تتبناها، ويكشف نفاق الغرب في التعامل مع قضايا حقوقية نصّ عليها القانون الدولي.
وعلى الرغم من أن تصرفات الحكومة البولندية القاسية في تعاملها مع المهاجرين بدءاً باستخدام الغازات المسيلة للدموع وخراطيم المياه تصدّرت عناوين الأخبار من زوايا إنسانية، إلا أن الاستعانة بمصادر خارجية لضبط الهجرة في شمال أفريقيا يعني غالباً غضّ الطرف عن مراكز الاحتجاز المكتظة، والأعداد الهائلة من الوفيات في البحر، والأنظمة الاستبدادية، والفساد المستشري. وكما يقول الصحافي أندرو كونيلي في موقع "فورين بوليسي"، فإن "تركيز الاتحاد الأوروبي في أزمة بيلاروس على عسكرة قضية إنسانية وتقويض مفهوم اللجوء من شأنه أن يبدد المبادئ التي من المفترض أن تميزه عن الأشرار".