"يأتي الأولاد بحسب قصص أمهاتهم عنهم. تحمل الأم ولدها خرافته زاداً، وترسله في الأرض، ممتلئاً بنفسه، أو ناقصاً منقوصاً إلى أبده". جملة نقرأها في رواية الكاتبة اللبنانية نجوى بركات، "مستر نون" (2019)، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "أكت سود" الباريسية، ونستحضرها فوراً لا لأنها تلخص القصة الآسرة والمشحونة بالعبر والرسائل التي تنتظرنا داخلها، بل لتشكيلها المفتاح لفهم شخصية بطلها المضاد، أو على الأقل واحدة من الشخصيات التي تسكنه. وقد لقيت الترجمة ترحاباً في الصحافة الفرنسية وأحدث مقال عنها صدر قبل أيام في صحيفة لوموند.
وفعلاً، الـ"نون" في عنوان الرواية ليس الحرف الأول من اسم بطلها فحسب، كما نظن في البداية، بل أيضاً "نون" الجماعة. أي جماعة؟ نترك للقارئ مهمة اكتشاف ذلك بنفسه، كي لا نفسد عليه متعة قراءة هذا العمل الذي لم يبالغ ناشره الفرنسي في اعتباره إحدى أهم الروايات التي صدرت باللغة العربية في السنوات الأخيرة، وننتقل إلى مستر نون الذي نعرف بسرعة أنه روائي سابق، ونراه في مطلع الرواية يعيش معزولاً في بيروت، داخل غرفة فندق يلازمها طوال الوقت ويجهد داخلها لتجاوز القرف الذي بات يثيره أي شكل من أشكال الكتابة داخله، من أجل تدوين سردية حياته. سردية تصلنا مفككة لأن رأس صاحبها مثل "قطار بمقطورات عديدة، يذهب كل منها في اتجاه". لكن هذا لا يمنعنا من التعرف ملياً إلى فصول محورية من ماضيه تفسر طبيعته الانطوائية والاكتئاب المسلط عليه. ماض "لا شيء فيه لا يلدغه كثعبان، لا شيء فيه لا يسمم قلبه".
سيرة مستر "نون"
أبرز هذه الفصول وأكثرها أثراً على شخصية مستر نون هو طفولته، بدءاً بيوم ولادته: "أستعيد تلك اللحظة إذ ألقتني القابلة بين يديها، فاكتشفتني صبياً هي التي أرادت أن تكون لها بنت بعد الصبي. (...) أرى نظرتها الأولى حين ألقت عينيها علي، فنظرتني كشيء، كأمر لا حاجة بها إليه ولا وظيفة محددة له، كشيء زائد يخل بنظام حياتها ويهدد وجودها. أجل. لطالما تعاملت ثريا معي كأني دخيل عليها، ولطالما عاملت نفسي بوصفي دخيلاً على الحياة".
ثريا، كما نعلم بسرعة، هي والدة مستر نون، وعلى طول سرديته، يسميها باسمها، لا لشيء سوى لأنها لم تكن يوماً أماً له، بل فقط لأخيه البكر سائد: "كان هو المفضل والابن المدلل الذي لا يرفض له طلب. في كل ما يفعل، كانت ثريا تؤيده، وتصفق له، وتسامحه، وكانت بالكاد تلتفت إلى أو تثني علي".
ولهذا السبب، عاش مستر نون طفولته كلها "في الزوايا" وتشكل فيها، بخلاف أخيه سائد الذي "كان يفعل كل شيء لاحتلال المركز، وكانت ثريا تحب ذلك فيه وتفسح له.. تدفعني أنا إلى الزاوية، وتدفعه هو إلى المركز". سائد الذي "لم يأنف يوماً من لعب الدور الذي رسمته له ثريا، بل كان يؤديه ويبرع فيه"، ولم يدافع أبداً عن أخيه الصغير أمامها، بل "كان يستمتع بسيادته وسطوته". وفي ضوء ذلك، لا عجب في إصابة مستر نون باكتئاب مزمن، إذ "عندما تكون طفلاً غير مرغوب به، أنت تمحي، تختفي، تشعر أنك لا أحد، لا شيء، فتتلاشى. لا شيء يزيل هذه البقعة عنك، هذه اللعنة الأصلية، وهذا الشقاء".
حرمان واكتئاب
من سردية مستر نون، يتبين لنا تدريجياً أن ثمة أسباباً أخرى لاكتئابه تضاف إلى حرمانه من حب أمه، كانتحار والده الطبيب أمام عينيه، وهو صغير، برمي نفسه من النافذة؛ والده الرقيق والإنساني الذي كان يرصد يوماً في الأسبوع لتطبيب المعوزين والفقراء، بغض النظر عن هويتهم، وبدلاً من كسبه بفضل ذلك محبة واحترام زوجته، كانت ترى في زواجها "من طبيب متواضع الحسب والنسب" مأساة حياتها.
ولأن مستر نون، بعد كل هذه المصائب، بات "لا يحب إلا ما هو دقيق مضبوط، ويكره كل ما هو مقارب وتقريبي"، انزوى في البداية على شرفة منزله، مذ تحولت بيروت التي يعيش فيها إلى دغل، مستسلماً لطقس الكتابة. و"إلى أين يخرج ولا أماكن فعلية للمشي. لا رصيف، ولا متنزهات، وإن وجدت، فلكي تستجلب ضجيجاً ونقيقاً لا يقوى عليه". وذات يوم، توقف عن الكتابة. "انقطع هكذا فجأة، كخيط، دونما قرار أو نية مسبقة. ألقى القلم من يده وخرج من الخط. أنف الكتابة كمتخم ما عاد يقوى على ابتلاع حرف واحد إضافي. وجد نفسه مستغرقاً في حمية اللاكتابة، مرتاحاً، خفيفاً، لا يشعر بجوع ولا بسوء هضم".
وحين ظلل يوماً برج شاهق شرفة منزله، قرر مغادرتها والاستقرار في غرفة فندق، بحثاً عن العزلة والسكون.. أو هذا ما كان يظن أنه فعله، قبل أن يتبين له- ولنا- أن مأساة جديدة وشخصاً آخر يقفان خلف هذا القرار، وأن الغرفة التي بات يسكنها لا تقع في فندق، بل في صرح من نوع آخر...
مفاجآت سردية
تطورات قصة مستر نون وفصولها لا تقتصر على هذا الحد، إذ تخبئ لنا مفاجآت أخرى كثيرة لا سبيل لكشفها من دون تبديد عنصر التشويق المهم في حبكتها المعقدة والمحكمة. لكن ما يمكننا أن نقوله هو أن اكتئاب بطلها وفقدانه معنى وجوده سيجعلانه يدمن الطواف في متاهات يسكنها المهمشون والملعونون والفقراء، والضرب على يدهم، لا لشيء سوى لأنه "عالجني وسوى وعورتي الداخلية (...) وقد جعل الوجع ملموساً"؛ وأن خلاصه من هذا الإدمان سيأتي على يد فتاة نيبالية تحتضنه ويختبر معها قصة حب مؤثرة تنتهي بفاجعة هي التي تقوده إلى تلك الغرفة التي بات يخشى مغادرتها...
"ما نحلم به يصير واقعياً، حقيقياً (...) وما نطلق عليه اسماً ينهض من فوره منتصباً، متقدماً بقلب وقدمين"، تقول بركات على لسان بطلها، الروائي مثلها. حقيقة تنطبق على الشخصية المركزية الأخرى في روايتها، لقمان، الذي يقود الفرقة التي نفذت مجزرة حي الكرنتينا في بيروت مطلع الحرب الأهلية، والمسؤول بالتالي عن انتحار والد مستر نون الذي كان يومها في ذلك الحي يطبب أطفاله.
لقمان الذي تسلط على أحلام مستر نون، أو بالأحرى كوابيسه، إلى حد جعله منه شخصية في واحدة من رواياته، ثم تعرفه فوراً إليه حين التقى صدفة به، أو ربما بلقمان آخر "يجسد احتمالاته على هذه الأرض". شخصية ثلاثية إذاً تعكس بقدر شخصية مستر نون الجانب السيكولوجي القاتم والآسر في الرواية، وتلجأ بركات إليها أيضاً لتسليط ضوء كاشف على فظائع الحرب الأهلية اللبنانية والتنديد بإفلات مجرميها من العقاب بسبب العفو العام.
تقبيح بيروت
لكن قيمة الرواية لا تكمن فقط في الجانب المذكور، الذي يستحضر أحياناً إلى أذهاننا سيكولوجيا أفلام ألفرد هيتشكوك وعنصري التشويق والمفاجأة فيها، أو في فضح الكاتبة المنهجي داخلها النتائج الوخيمة للحرب وتحديدها المسؤولين عنها، أي "بنو جلدتي من المتشبثين بطوائفهم وشيعهم وجحورهم، مثل ذباب عالق في الخراء". فمن خلال بطلها وهوسه، تتوقف مراراً، وبمرارة، عند "عمليات التقبيح" التي تجرى يومياً لبيروت: "تأمل السيد نون في المباني التي تقابل نافذته. أجساد فارغة لمتسولين يرتدون ثياباً رثة مهلهلة. لا طابق يشابه الآخر. لا عمارة تتناسق مع ما يجاورها. كل في شأنه، ولا شأن للآخرين بشأنه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن خلال تسكعه، قبل إنشاده العزلة، تجول بنا داخل الأحياء البائسة للمدينة وضواحيها، مصورة متاهاتها وواضعة إيانا وجهاً لوجه مع قاطنيها ومحن حياتهم. فعن منطقة برج حمود، نقرأ: "أحياء كانت في بداياتها مخيمات أقيمت لمن نجا من مذابح الأرمن وحريق الكرنتينا، ثم تحولت الخيام أكواخ صفيح، والصفيح باطوناً ومباني، والمباني بيوتاً وأسواقاً حرفية. (...) الآن، تغلي الشوارع الصغيرة كقفير نحل بعمال ينتمون إلى ألف عرق ولون، وبنازحي كل حروب المنطقة".
وإلى هؤلاء النازحين تنتمي جارة مستر نون في "الفندق"، مريم، التي تستعين بركات بها لمقاربة أيضاً مأساة السوريين الراهنة. مريم التي كلما لمحت جارها دعته إلى العشاء، لا لشيء سوى لأنها فقدت جميع أفراد عائلتها "في انفجار أحد البراميل التي أمطرت حلب"، فصارت تعيش حياتها مع أشباح "تعد لهم الطعام كل ليلة وتجالسهم"، ولم تعد "متمسكة إلا بتلك اللحظة، موعد العشاء واجتماع العائلة"، لتلخيصها الحياة الهانئة التي فقدتها.
وإذ لا مجال هنا للتطرق إلى جميع الموضوعات المهمة التي تعالجها رواية "مستر نون" بمهارة وبصيرة نادرتين، نختم بما نقرأه فيها عن أولئك الذين لا يترددون، للإفلات من همجية الحروب المشتعلة في منطقتنا، في الإبحار على متن قوارب تنتهي غالباً في قعر البحر: "مرشحو الموت لا يعبأون بمصائرهم الماثلة أمامهم كتماثيل من رخام، بل يرمون أجسادهم في المياه الداكنة التي من قصدير وقطران، يتمسكون بزعانف الموج ويعانقون الخطر كما لو كان خشبة خلاص".