بعد أكثر من عشر سنوات على اندلاع الحرب في سوريا، الكثير تغير في هذا البلد وفي المنطقة، لكن عائلة الأسد حافظت على قبضتها على السلطة، لا سيما بفضل الدعم العسكري من روسيا وإيران ووكلائهما. غير أن ذلك لم يكن وحده كافياً لصمود النظام الذي جففت العقوبات الدولية موارده المالية. فللوصول إلى العملات الصعبة، رعى نظام بشار الأسد عبر أقاربه ومقربين منه وقواته العسكرية شبكة غير شرعية للاتجار بالمخدرات، جعلت من سوريا أحدث عضو في نادي الدول المصدرة للمخدرات في العالم.
تشمل صناعة المخدرات في سوريا مراحل الإنتاج والتهريب كافة، من عملية التصنيع التي تنتج بشكل أساسي حبوب "الكبتاغون" المشتقة من مادة الأمفيتامين المنشطة والمسببة للإدمان، إلى مراكز التوضيب حيث تجهز الحبوب وتخبأ للتصدير، وصولاً إلى شبكات التهريب التي تتولى بيعها في الأسواق الخارجية.
وقد كشف تحقيق لصحيفة "نيويورك تايمز"، عن أن معظم عمليات إنتاج وتوزيع المخدرات تتم بإشراف الفرقة الرابعة المدرعة في الجيش السوري، وهي قوة نخبة يقودها ماهر الأسد، الأخ الأصغر لبشار الأسد وأحد أكثر الشخصيات نفوذاً في سوريا.
وينخرط في هذه التجارة مجموعة رجال أعمال يتمتعون بصلات وثيقة بالنظام السوري، وميليشيا "حزب الله" اللبنانية، وأعضاء آخرون من أسرة الأسد يحظون بحماية النظام في ممارسة الأنشطة غير المشروعة، وفق تحقيق لصحيفة "تايمز" البريطانية استند إلى إفادات مسؤولين أمنيين في عشر دول وخبراء في تجارة المخدرات.
عمليات التصنيع
يروي تحقيق "نيويورك تايمز" أنه مع اندلاع الحرب السورية عام 2011 استغل المهربون الفوضى في البلاد لبيع "الكبتاغون" للمتحاربين، وراح من ثمَّ بعض السوريين يصنعون هذه الحبوب بمساعدة صيادلة محليين وباستخدام الآلات في مصانع الأدوية المهجورة.
وفي ظل الانهيار الاقتصادي الذي فاقمته العقوبات الدولية على النظام ورجالاته، لجأ بعض هؤلاء إلى الاستثمار في صناعة "الكبتاغون"، فنشأ كارتل مرتبط بالنظام يضم أقارب لبشار الأسد، ومسؤولين أمنيين، وقادة ميليشيات، وتجاراً توقفت أعمالهم بسبب الحرب.
وفي ضوء ذلك، توفرت في سوريا كل العناصر اللازمة للاتجار بالمخدرات: خبراء لتصنيع "الكبتاغون"، ومعامل لصنع معدات تخبأ فيها الحبوب، ومرافئ متصلة بممرات الشحن في البحر الأبيض المتوسط، وطرق تهريب برية إلى الأردن ولبنان والعراق، كللتها حماية أمنية من الدولة.
وينقل تحقيق "نيويورك تايمز" عن سوريين يعيشون في مناطق إنتاج المخدرات، أن مختبرات صنع "الكبتاغون" تنتشر في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، وفي أراضٍ يسيطر عليها "حزب الله" قرب الحدود مع لبنان، وقرب مرفأ اللاذقية. ومعظمها مصانع صغيرة مقامة في هنغارات من حديد أو في فيلات مهجورة، تصنع فيها الحبوب بآلات بسيطة، وفق ما أفاد سوريان اثنان زارا هذه المواقع. كما أن بعضها يخضع لحراسة أمنية من قبل جنود النظام، فيما وضعت أمام منشآت أخرى لافتات تفيد بأنها مواقع عسكرية مغلقة.
إشراف وحماية من النظام
بعد التصنيع، تخبأ حبوب "الكبتاغون" في قاع حاويات الشحن، أو في عبوات الحليب والشاي والصابون، أو في شحنات العنب والليمون والرمان، وغيرها من المعدات. من ثم تهرب براً إلى الأردن ولبنان، حيث يصدر بعضها عبر مطار بيروت الدولي أو مرافئ لبنان البحرية، أما الشحنات الأكبر فتخرج من سوريا عن طريق مرفأ اللاذقية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبحسب "نيويورك تايمز"، يشكل مكتب أمن الفرقة الرابعة برئاسة اللواء غسان بلال، "الجهاز العصبي" لكارتل مخدرات النظام السوري. فبحسب مسؤولين أمنيين في المنطقة وضابط سوري سابق، تحمي قوات المكتب العديد من مصانع "الكبتاغون" وتسهل نقل الحبوب إلى حدود سوريا ومرافئها.
ويقول المسؤولون إن أكبر عائق أمام مكافحة هذه التجارة، هو الدعم الذي تلقاه من النظام السوري الذي لا مصلحة له في وقفها. فالمبعوث الأميركي إلى سوريا في عهد دونالد ترمب، جول رايبرن، يرى أن التوجه إلى النظام السوري لطلب التعاون في هذه القضية هو أمر "سخيف"، قائلاً إن "الحكومة السورية هي حرفياً من يصدر المخدرات. إنهم لا يغضون النظر بينما تقوم العصابات بعملها، بل هم أنفسهم كارتل المخدرات".
ويؤكد مدير إدارة مكافحة المخدرات في مديرية الأمن العام الأردني، العقيد حسان القضاه، لـ"نيويورك تايمز"، أن "مصانع الكبتاغون موجودة في مناطق سيطرة الفرقة الرابعة وتحت حمايتها"، مشيراً إلى أن "وجود الفرقة في المنطقة خطير".
مصدر الدخل الأكبر
وتظهر بيانات جمعتها صحيفة "تايمز" البريطانية أن التجارة غير الشرعية للمخدرات تشكل أبرز مصادر الدخل لسوريا حالياً، متجاوزةً بأشواط العائدات الرسمية. فحبوب "الكبتاغون" ذات الجودة المتدنية، يمكن أن تباع مقابل دولار واحد للحبة داخل سوريا، فيما يبلغ سعر الحبة الواحدة ذات الجودة الجيدة في الأسواق الخارجية 14 دولاراً أو أكثر.
ويقول جهاد يازجي، محرر نشرة "The Syria Report" التي تتابع الاقتصاد السوري، لـ"نيويورك تايمز"، إن تجارة "الكبتاغون" باتت على الأرجح المصدر الأهم للعملات الأجنبية بالنسبة إلى دمشق، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن ذلك لا يعني أن الأموال التي تستثمر ترتد إلى الاقتصاد السوري، بل تذهب على الأرجح إلى الحسابات البنكية للمهربين وأمراء الحرب.
وفي السنوات الأخيرة، صادرت السلطات في اليونان والسعودية وإيطاليا الملايين من حبوب "الكبتاغون"، مصدر معظمها مرفأ يسيطر عليه النظام في سوريا، وبعضها شحنات قد تتجاوز قيمتها السوقية المليار دولار، بحسب المسؤولين الأمنيين. ومنذ مطلع 2021، صودرت أكثر من 250 مليون حبة "كبتاغون" في العالم، أي أكثر بـ18 مرة من الكمية التي صودرت قبل أربع سنوات فقط (2017).
وتواجه السلطات الرسمية للدول صعوبة في توقيف المهربين، إذ إن النظام السوري لا يوفر معلومات عن الشحنات التي يصدرها، وغالباً ما تكون أسماء مصدري هذه الشحنات من مرافئه مزيفة، ومتسلموها يتبين أنها شركات وهمية، فتصل التحقيقات إلى طرق مسدودة.
وأخيراً، بدأت شبكة التهريب السورية تزيد من تصديرها مخدرات الكريستال ميث (الكريستال ميثامفيتامين)، وهي أكثر خطورة من حبوب "الكبتاغون"، ما يثير قلق حكومات المنطقة.
أصحاب الملايين
وهذه التجارة التي تدر المليارات أسهمت في تحويل تجار متواضعين في سوريا إلى أصحاب ملايين. وبين هؤلاء رجل الأعمال عامر خيتي، الذي تحول من تاجر مواشٍ متواضع إلى مهرب مخدرات بين مناطق النظام والمعارضة خلال الحرب قبل أن يصبح نائباً في مجلس الشعب السوري عام 2020. كذلك هو حال خضر طاهر، بائع الدجاج الذي جمع ثروة من تهريب "الكبتاغون". وقد كان هذان الرجلان من أبرز الداعمين لحملة الأسد خلال الانتخابات الرئاسية التي شهدتها سوريا في العام الحالي.
ولم تستطع "نيويورك تايمز" الوصول إلى ماهر الأسد واللواء بلال للحصول على تعليق، كما لم يرد مسؤولون من وزارة الإعلام السورية وبعثة دمشق الدبلوماسية إلى فيينا على طلبات للتعليق. أما الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله فلطالما نفى أي علاقة لميليشياته بتجارة "الكبتاغون".
والأسد وشقيقه ماهر، وكل من اللواء بلال وخيتي وطاهر، جميعهم يخضعون للعقوبات الأميركية، التي تحظر التعامل معهم أو تسهيل أنشطتهم.
وإلى جانب سوريا، لا يزال لبنان موطئاً مهماً لتصنيع وتهريب "الكبتاغون" والمخدرات، ومن أبرز أسمائه على هذا الصعيد التاجر نوح زعيتر، الذي يربط الجانبين اللبناني والسوري لهذه التجارة. إلا أنه في اتصال هاتفي مع "نيويورك تايمز"، نفى زعيتر المحكوم عليه في لبنان بالسجن المؤبد والأعمال الشاقة، أي علاقة له بتجارة "الكبتاغون"، قائلاً إنه يعمل فقط في تجارة الحشيشة.
وتعد دول الخليج أبرز الوجهات لتصدير حبوب الكبتاغون، وتقود حكوماتها جهوداً حثيثة لمكافحة تهريب هذه المخدرات. وفي هذا الصدد، أوقفت السعودية في أبريل (نيسان) الماضي، استيراد المنتجات الزراعية اللبنانية بعدما ضبطت شحنة من حبوب الكبتاغون مخبأة داخل ثمار رمان آتية من لبنان.