في ديوانها الرابع "الاعتراف خطأ شائع"، الصادر حديثاً في القاهرة عن الهيئة العامة للكتاب (نوفمبر 2021)، ترتاد الشاعرة المصرية رضا أحمد دروباً وعرة فوق أرض منزوعة الطمأنينة والجاذبية، وتحلّق بأجنحة الطيور المهاجرة والجارحة في مسارات شائكة وفضاءات مجهولة، ضاربة بكل وسائل الأمان واحتياطات الحذر عرض الحائط، على المستويين؛ الفني الإبداعي، والحياتي المعيش، في آنٍ واحد.
ومنذ انطلاق رحلتها الجَسور، فهي حليفة التمرد والنسيان في انفلاتها المباغت "من قفص العائلة"، وكذلك حال بحثها عن نقطة وصول نهائية خارج ليالي الأرق ونهارات الظلّ الممزق والهوية المزيفة "الطريق: شق سكين في ورقة وحيدة على شجرة العمر، أثر وهج قبلة على شفاه متيبسة، خشخشة مفاتيح في سجلات حرز، جرائم حنين سابقة، أو هكذا أظن وأنا أبحث عن شيء يبقيه لي الخريف، من النهايات الكلاسيكية للأفلام".
سلسلة مغامرات
تقرّ الشاعرة من البداية، في إهدائها الديوان لأمّها، بأنها ابنة الانهيارات والارتباكات والأخطاء "الهزائم ليست جديدة عليّ"، لكنها تأبى أن تكون مجرّد خطأ إنسانيّ ارتكبه أبواها، وخطأ كوني اقترفته الأقدار، فتشهر القصائد أسلحة نارية خطيرة وقذائف من برق ورعد وبارود ودخان، في وجه كل مَنْ حولها من بشر، وما حولها من كائنات وأشياء، وتحيل المشاهد الدرامية البائسة والهزائم اليومية الأليفة التي تخصها وتخص غيرها في المواقف الاعتيادية إلى غابات وحشية حافلة بالصراعات المثيرة الحاشدة، والمعارك الضارية. كما أنها تغيّر مفهوم الاعتراف من معناه التطهّري التقليدي وطبيعته الهشّة إلى خطأ ميكانيكي ينبغي تجنّبه بشراسة، وعدم السقوط في فخاخه، حتى لو صار خطأ شائعاً بين الآدميين المستسلمين للسائد والمنطقي والمجاني، وحتى لو لم يعد هناك بديل أمامها غير أن "تتبادل مع الجدران صمتها".
وتحمل لوحة الغلاف، التي أبدعتها التشكيلية السورية ريم يسّوف، الكثير من مفاتيح صناديق الديوان السرية، إذ تبرز سطوة الرمادي القاتم على العالم الضيّق المغلق، وتبلور التحديات التي تنجزها الأنثى المشاكسة من أجل أن تكسر الحصار المفروض عليها، وتزيح السجن المشبوك في ضفائر شَعرها المتحررة شكلاً لا موضوعاً، وتتخفف من أمراض القلب والرئتين، وتتحلل من عصابة عينيها ومن الظلام الخارجي "الذي يدفع المنازل بعيداً عن طريقها، ويشتري صمتها بحفنة نظرات"، منطلقة ببصيرتها النافذة ومصابيحها الداخلية وطاقاتها المتفجرة وأنوثتها الخصيبة البركانية إلى آفاق مفتوحة، لا تكبلها قيود، ولا تحدّها أسوار "تملصتُ هلعاً من قيودي، حين رأيت قلبي في علبة الأشعة، يخرج منه الناس مثل حبوب لامعة، تتحرر من ثمرة رمان، قبل أن تسقط في قفص الحصاد".
خلخلة السكون
تعكس نصوص "الاعتراف خطأ شائع" الـ31، التي لا تحمل عناوين، والموزّعة على 130 صفحة، في مجملها صورة صادقة لأحدث تجليات قصيدة النثر النسوية الجديدة بمصر، خصوصاً سمتها الإنساني العام وقدرتها المدهشة على نسج المفاجأة وإحداث الصدمة وخلخلة السكون الجمالي الناجم في أعمال البعض عن البرودة اللغوية والتعبيرية والتصويرية والسرد الروتيني للمذكرات الذاتية والأحداث الجارية. ويأتي ذلك الانزياح في الديوان على مستوى سيولة الأفكار والعبارات والتراكيب والصور والخيالات وغيرها "الطرق كلها شرايين مفتوحة، لدماء لن تجفّ أبداً".
وحتى التقنيات الدارجة في قصيدة النثر الراهنة، وعلى رأسها المفارقة، فإنها تكتسب أبعاداً مغايرة في الديوان، من حيث طزاجة مفرداتها وغرائبية طقوسها في بعض الأحيان وتجاوزها التضاد الجزئي المبتور إلى رحابة المنظومة الكلية للانقسام والشتات "غداً ستأتي غنيمتك، بقميصها الأحمر الفضفاض، بوشم الفراشات أسفل ظهرها، برائحتها الجائعة، وفمها الذي يمضغ الأكاذيب؛ ترجوك أن تقف على حافة المشنقة، حين يوسعون لك قبراً مجانيّاً، من دون رخصة إنشاءات، ووثيقة وفاة مسببة".
كذلك، تتجلى قدرة نصوص الديوان على تنحية المحاذير الاجتماعية والمحظورات المحنطة والموروثات البالية بعيداً، إلى درجة أنها تعد التحوّط الأجوف حماقة، والحكمة المبالغ فيها سفهاً يفضي إلى فقدان المبادرة وتهافت الشخصية "الحكمة تجعلك حبيس أخطائك؛ هي مرآتك المغبرة، حدبتك الباردة التي تثقل ظهرك، والمرأة ذات الوجه المشوه، التي تضبط نفسك كل ليلة، وأنت تمارس عادتك السرية، أمام تابوتها المحروق".
والكتابة، من هذا المنطلق، تغدو سلسلة من الكشوف المتتالية، والمغامرات المتلاحقة، التي تلهث الحواس في تتبّع تفاصيلها الغزيرة واصطياد عناصرها المجمّعة والمفكّكة "تمادَى في السير خلف الأشجار الهزيلة، بملابس أنيقة وإيماءات صبيانية، دَعَكَ جذوعها الناشفة، خلال نوبات الشبق، وقذفها بالعصافير الميتة، وهرب".
موجات تسونامي
في ديوانها "الاعتراف خطأ شائع"، تواصل صاحبة "لهم ما ليس لآذار" و"قبلات مستعارة" و"أكلنا من شجرته المفضّلة" رهانها على ما يمكن وصفه بعرامة الشعر وفداحته وزخمه وتدفقه، فالقصائد حالات حمّى ونوبات جنون متشابكة متداخلة، وزلزلات عصبيّة عصيبة داهمة، وموجات تسونامي جارفة تزيح كل ثابت في طريقها "قصائدي: لفائف خبز، أصابع ديناميت، وسجاجيد مطوية، تتدحرج لمسافات بعيدة، تدهس في طريقها التاريخ الدموي".
وأول هذه الثوابت التي تنتزعها أعاصير القصائد من جذورها؛ هو تصوّر الرجل الشرقي عن المرأة النمطية، في واقعه الحقيقي وأحلامه المتخيلة "أنا مقارنة بالأشباح التي لفظتها عن كوابيسك؛ أنثى عنيدة، لا تشرب الماء المراق دون رغبة، ولا تأكل فتات وقتك، إلا إذا تداعت أمامك القيامة، ورأيت نفسك هارباً نحو شفاعة فراشها الأخير".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومثل هذه الأنثى، قد لا يكون بإمكانها أن تعتقد برجل يعتقد بالحب ويقدس التقاليد، ذلك أنه ببساطة قد "لا يتمكن من أن يبتاع لها ثوباً جديداً". لكن الأنثى الناضجة القوية لا تلعن حظها أبداً، لأنها المعنى الكامل للثقة بالذات، والالتفاف حولها، والتوحد معها، من أجل مقاومة تجاعيد وجهها وروحها، والمحافظة على أطرافها مرنة صالحة للاستعمال حتى النهاية، وتأمين حصى قلبها "كوماً متيناً لا يكنسه الخوف".
وتحت مظلة الاكتفاء والاستغناء، فلا حاجة لها للالتفات إلى نداء الممرات المنسية في جسدها، إذ "لا حب يطفو في المستنقعات، بين التماسيح والضفادع، والبكاء حيلة صبيانية تمحو بريق التجربة". وكذلك، فلا طائل من اعتناق فرضيات خائبة حول تبدّل الزمن، أو انتظار ما لا يجيء "عشت طويلاً برأس دائري، يشبه حُجرة الساعة، يرتفع فوق جدار، يستطيل لثلاثين حجراً بما يكفي، لأبصق في وجه العالم، عند الثانية عشرة إلا قليلاً".
ولكنّ تلك الصلابة الظاهرة، ربما تحوي في طياتها سخرية ضمنية، والتياعاً كامناً، ومرارة مكبوتة لا تجرؤ الذات الشاعرة على تسريبها، إلا في لحظات استثنائية من البوح الاعترافي الذي تسمّيه الفعل الخطأ "لم أعانِ مشكلة أبداً؛ أرى كل شيء كما يجب أن يكون، أنا أغبى من الجميع". ومن خلال هذا الثقب التنفيسي الصغير، الذي لا تلجأ إليه إلا قليلاً، فإن الشعر قد يجعل الألم طُرفة أو كوميديا سوداء، كما أنه قد يحوّل الموت إلى دعابة يجري تمريرها بسلاسة "المزاح طريقة محببة لصنع جنازة".