حين كتب كارل ماركس في القرن التاسع عشر عن "الاستبداد الشرقي"، كان يتصور أن الثورة ليست ناضجة إلا في أوروبا. والسبب هو تنامي كتلة البروليتاريا العمالية بفضل الثورة الصناعية.
لكن ثورات ما سمي "ربيع الشعوب" في أوروبا تعرضت للقمع والعنف والفشل. وشعار "يا عمال العالم اتحدوا، فلن تخسروا سوى قيودكم"، وجد صدى عملياً حيث القليل من العمال والكثير من الفلاحين. لينين قاد الثورة البلشفية في روسيا القيصرية الزراعية الاستبدادية. وماو توتسي تونغ قاد الثورة الشيوعية في الصين الزراعية.
والشعار طبعاً هو "المطرقة والمنجل" كرمز للعمال والفلاحين. أيام الصراع بين الجبارين الأميركي والسوفياتي كان كل شيء يوضع في إطار الصراع بين الغرب والشرق. واليوم، يصعب حصر الصراع بين أميركا وكل من الصين وروسيا في إطار الصراع بين الشرق والغرب.
فالصين شيوعية شمولية لكنها تمارس اقتصاد السوق وتلعب في الغرب. وروسيا رأسمالية سلطوية، لكنها في علاقات مع الجميع على الرغم من الخلاف مع أميركا وأوروبا. والدنيا تغيرت، لا الغرب بات تعبيراً جغرافياً، ولا الشرق بات تعبيراً جغرافياً.
في بدايات صعوده، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يضع روسيا في الغرب، على طريقة القيصر بطرس الأكبر الذي جاء بالمهندسين الفرنسيين والإيطاليين لبناء روسيا. غير أنه كان يشكو من "إذلال" الغرب روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.
ولم يعد يتكتم على مشروعه الذي خلاصته أن تكون روسيا القطب الدولي المواجه للغرب. ومثل هذا ما تحدث عنه أندريه غراتشوف مستشار الزعيم السوفياتي الأخير ميخائيل غورباتشوف. إذ رأى "أن الغرب ليس جغرافيا بالنسبة إلينا بل رمز سياسي وبرنامج سياسي، لكن سلوك الغرب أضعف الديمقراطيين ودعاة الغربنة في موسكو".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومنذ إصلاحات دينغ شياو بينغ بعد رحيل ماو صار هدف الصين التعلم من الغرب وفي جامعاته وتقليد التكنولوجيا و"سرقتها" على أيدي من تسميهم بكين "اللصوص الوطنيين". وهي اليوم المنافس الأقوى لأميركا حتى في ثورة الاتصالات وتكنولوجيا الجيل الخامس، كما أنها الاقتصاد الثاني في العالم. أما مشروعها الاستثماري "الحزام والطريق"، فإنه يقطع جغرافيا الشرق والغرب والشمال والجنوب.
والواقع أن الغرب الذي لم يعد أوروبا وأميركا فقط أصبح تعبيراً ثقافياً وسياسياً وحضارياً. فكل بلد ديمقراطي يوضع في خانة "الغرب". هكذا يتم النظر إلى الهند واليابان وأستراليا وتركيا أيام أتاتورك والنظام العلماني وما سماه "التوجه نحو الحضارة".
حتى الدول المنضوية في حركة "عدم الانحياز" التي سماها رئيس الوزراء اللبناني سابقاً الدكتور سليم الحص "دول العدم والانحياز"، فإن بينها من هو في خانة "الغرب".
أما الشرق اليوم، فإنه أيضاً أوسع من الجغرافيا التي تتركز في آسيا وأفريقيا، وتبدو الصين وروسيا وإيران رموزه القوية. فالسود في أميركا "شرق" وفنزويلا والحركات اليسارية في أميركا اللاتينية التي تواجه سياسة الولايات المتحدة ترى نفسها في "الشرق".
لا بل إن منطق روسيا والصين هو أن السلطوية نوع من "مقاومة" الغطرسة و"التنمر" في الغرب، ومن الدفاع ضد تفسير الغرب للديمقراطية وحقوق الإنسان.
ففي الوثيقة الرقم 9 للحزب الشيوعي الصيني وُضعت "الديمقراطية الدستورية الغربية والتفسير الغربي لحقوق الإنسان" في باب المخاطر على الحزب. ويروي سولزبيرغر في كتاب عن نيكسون أن الرئيس الأميركي سابقاً قال له في قمة مع بريجنيف طلب الزعيم السوفياتي إجراء حديث بيننا من دون وجود أحد، وأضاف "الصينيون برابرة، ونحن وإياكم حضارة واحدة، فلنتفق على اقتسام العالم".
والمفارقة الكبيرة في لبنان الذي ينهار فيه كل شيء. فهو تقليدياً يتوجه إلى الغرب، وهو مدعو اليوم من "حزب الله" إلى "التوجه شرقاً" والمقصود إلى إيران. لكن اعتراضات الغرب على فساد التركيبة الحاكمة، واستمرار العقوبات الأميركية على إيران تضع لبنان في وضع العاجز عن التوجه غرباً أو شرقاً.
فالتوجه غرباً يحتاج إلى إصلاحات لا تزال مستعصية، والتوجه إلى الشرق يضعنا في سجن العقوبات مع طهران. والدنيا تغيرت منذ قال الشاعر الإنجليزي روديارد كيبلينغ "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا".