إذا كان الرسام الأميركي اللاتيني فرناندو بوتيرو الذي يلقب نفسه عادة بـ"الأكثر كولومبيّة بين الفنانين الكولومبيين" قد اشتهر بعدة سمات تميز حياته وفنه، ومنها أنه الرسام الأشهر بين رسامي القارة الجنوبية والوحيد بينهم الذي استُقي من فنه تيار يحمل اسمه هو "البوتيرية"، وأن الشخصيات التي يرسمها تعد الأضخم حجماً بين ما يرسمه الفنانون المعاصرون، وكونه واحداً من قلة من فنانين عالميين وصلت منحوتاتهم إلى حد أن تعرض في أماكن عامة خارج بلاده، كما حدث بالنسبة إلى معرض ضخم في الهواء الطلق على طول جادة الشانزيليزيه الباريسية، أو في مدريد أو حتى نيويورك، ناهيك بانخراطه المعلن والمتواصل في النضال السياسي على الصعيد العالمي، ضد شتى أنواع الدكتاتوريات و"الإمبرياليات"، فإنه يتميز كذلك بوفرة ما يقدمه من منحوتات ولوحات للجامعات والمتاحف. ولقد كانت من أبرز هداياه في هذا المجال، تلك المقدرة بما بين 10 و15 مليون دولار التي قدمها قبل أعوام إلى متحف خاص في جامعة بيركلي بولاية كاليفورنيا الأميركية، تلك الجامعة التي اشتهرت في العالم أجمع في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين بنضالات طلابها وتضحية بعضهم حتى بحياتهم خلال ثورات الشبيبة العالمية. وهو أمر لم يفت بوتيرو أن يذكر به حين سئل عن مغزى ذلك الإهداء.
من العراق إلى أميركا
ولعل اللافت في هذا الأمر هو أن اللوحات المعنية هنا هي بالتحديد تلك العديدة والرائعة التي صور فيها بوتيرو عدداً من أشد مناظر التعذيب رعباً وقسوة. ونعني بذلك مشاهد تعذيب السجناء العراقيين في سجن "أبو غريب" إبان الاحتلال الأميركي للعراق عند بدايات القرن الجديد يومها بأسلوبه الكاريكاتيري المتأرجح بين الرعب والتقزز، أدهش بوتيرو العالم بالكيفية التي عبر بها عن تلك المأساة الأخلاقية التي انتشرت أخبارها وصور فظاعاتها الفوتوغرافية حول العالم ممثلة أعتى درجات الانحطاط ومستويات انتهاك الكرامة الإنسانية من قبل جنود ومجندات أميركيين من حراس السجن، وهم يضحكون ويسخرون من مسجونيهم وقد عروا معظمهم من ملابسهم البالية، ثم صوروا ذلك كله وهم فخورون به. ونعرف أن بوتيرو الذي دائماً ما خلط في إبداعاته بين الكاريكاتير الساخر والواقعية المنتمية إلى نقد اجتماعي بالغ القسوة، انطلق في تحقيق تلك اللوحات من نفس الصور الفوتوغرافية التي التقطها أولئك الجنود واستتبع انتشارها في العالم فضيحة بات البعض يعتبرها أم الفضائح الأميركية.
تلك اللوحات نفسها التي باتت منذ عروضها الأولى من أشهر أعمال بوتيرو متفوقة في شهرتها وتراتبيتها بالنسبة إلى شعبيتها، على أعمال سابقة له كانت ارتبطت باسمه وجعلت له عشرات الملايين من المعجبين حول العالم، متسببة حتى بنفيه خارج كولومبيا التي لم تستسغ سلطات متعاقبة فيها تنديده بأنظمة الحكم فيها وفي غيرها من البلدان المجاورة، تلك اللوحات حرص بوتيرو على أن تكون هدية/ تحية إلى جامعة بيركلي بالتحديد كنوع من التذكير بـ"الماضي المجيد الذي يسم تاريخ تلك الجامعة"، ومن هنا لا بد من الإشارة إلى أن قبول الهدية التي اعتبرها يمين أميركي متطرف "هدية مسمومة يقدمها مهرج مشاكس لبلد يكرهه ولا يتوقف عن التنديد به"، كما كتب أحد الصحافيين للمناسبة، قد وجه بمعوقات إدارية أخفت وراءها غايات سياسية. لكننا نعرف أن الفن انتصر هناك مرة أخرى، وها هي اللوحات معروضة يتدفق المتفرجون لمشاهدتها منددين في طريقهم بما اقترفه الجنود في حق الكرامة الإنسانية. ولسوف يقول بوتيرو بعد بدء عرضها بسنة ونيّف، إنه لو لم يحقق في حياته سوى ذلك الانتصار الصغير لكفاه الأمر فخراً.
مضمون أيديولوجي
لكن تلك المشاهدة العامة لم تكن وحدها مصدر فخر لبوتيرو وقلق لمناوئيه. فمنذ ظهور تلك اللوحات في عروضها العامة الأولى ولسنوات بعد حضورها في متحف جامعة بيركلي، لم يتوقف النقاد والباحثون عن التحدث عنها، ودائماً بوضعها في الصف الأمامي في تراتبية أفضل أعمال هذا الرسام الفذ والمشاكس، إلى جانب أشهر لوحاته المعروفة على نطاق عالمي بشكل يفوق لوحات أي فنان آخر من القارة الجنوبية، مثل "العائلة الرئاسية" (1967) و"موت بابلو إسكوبار" (1999( التي صور فيها بشكل فجائعي مقتل زعيم مهربي المخدرات في العالم في كمين بوليسي في بلاده)، و"مونا ليزا في الثانية عشر" (1959) التي تعد من أشهر لوحاته الأولى، مروراً بـ"الراقصون" (1987) وسلسلة تكاد لا تنتهي من تلك اللوحات الرائعة التي كرسها لحلقات مصارعة الثيران، مروراً طبعاً برائعته التي نوع فيها على لوحة النهضوي رافائيل في بورتريه "البابا ليون العاشر" (1964). وفي المقابل لم يتوقف الباحثون الأكثر اهتماماً بالمضمون الأيديولوجي والعملي للوحات "أبو غريب"، عن البحث والمقارنة في محتوى هذه اللوحات التي مجموع ما أهدي منها إلى جامعة بيركلي يتجاوز 25 لوحة، وعدد مماثل من الرسوم والتخطيطات، متوقفين بخاصة عند تلك اللوحة المرعبة التي صور فيها الرسام استناداً إلى صورة فوتوغرافية حقيقية، سجيناً وهو يرتعد في مواجهة كلب متوحش ينبح عليه بكل قوة وتهديد، أو اللوحة الأخرى التي تصور سجينين يُضربان بكل قوة في زنزانة السجن، وتكاد تسمع أصوات قهقهة عرف بوترو كيف يعبر عنها باللون والخط...
دولارات "اليانكي" المرفوضة
عندما دارت هذه اللوحات في مدن عدة من العالم في معارض عرضت فيها للبيع، بيعت كل لوحة منها بما لايقل عن مليون دولار. لكن بوتيرو رفض أن يباع ما تبقى منها في أميركا قائلاً دون أدنى قدر من المزاح إنه لا يريد "دولارات اليانكي أن تُدفع ثمن لوحات تصور معاناة شعب تحت الاحتلال"، بل يريد أن تعرض اللوحات في مكان عام ليشاهدها الناس جميعاً ويتفرجوا على مهانة سلطاتهم ولا أخلاقياتها من خلال تعريضها شعوب الآخرين للمذلة المجانية. وأعلن بوتيرو أنه لا يمكنه أن يرى في تلك اللوحات أنها تعبر عن ذل الضحايا ومهانتهم بأكثر من تعبيرها عن مهانة الجلادين وانحطاطهم. ومن هنا، حتى وإن كان قد اتبع هنا أساليبه المعتادة في التعبير الكاريكاتيري عن الواقعية الغرائبية عبر شخصيات نفخ أحجامها كما يفعل دائماً، فإنه حرص على ألا يترك أي مجال في أية لوحة للتعبير عما اعتاده من حس فكاهة حتى من خلال المعاناة، في لوحاته السابقة. فالمأساة والمعاناة هنا متكاملتين، ولا مجال لفرض أية أبعاد أخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تبادل خلاق بين الجلاد والضحية
بكلمات أخرى "ربما أكون قد نجحت في المقابل في أن أفرض على اللوحة حساً معاكساً يجعل الفكاهة نوعاً من التشفي يطلقه المتفرج على الجلاد لا على الضحية". حتى ولو كان واضحاً في كل لوحة من اللوحات وكل رسمة من الرسوم، أن الأول هو الذي يشغل نقطة المركز في العمل الفني لا ضحيته. ومن المؤكد أن هذه الموضعة تبدو جديدة في لوحات رسام جعل المجابهة في لوحاته تقوم دائماً بين شخصيات اللوحة ومتفرجيها، فيما نجده في هذه المجموعة من اللوحات يقيم المجابهة بين من يرسمهم جاعلاً تعاطف المتفرج الذي لا يمكنه أن يكون محايداً يتوجه صوب الضحية حتى ولو كان من الذين ينظرون عادة إلى هذه الضحية بوصفها مقترف إجرام مسقطاً عنها في لعبة تلق ماكرة كل التهم الموجهة إليها مستبدلاً النظرة الخارجية إلى صاحبها كمجرم بنظرة قاسية تلقى على الجلاد محولة إياه مجرماً بالفعل والقصد.
من المسرح إلى العالم
بقي أن نذكّر أخيراً بأن بوتيرو الذي يدنو حثيثاً في هذه الأيام من عامه التسعين هو الذي ولد عام 1932 في مدينة ميديلين، كان ابناً لبائع متجول مكنته منحة من الآباء اليسوعيين من تلقي دراسة ابتدائية، ثم فنية كلاسيكية وراح ينشر رسومه الأولى، وكانت في غالبيتها تصور مشاهد مصارعة الثيران، في الصحف المحلية، قبل أن يتحول إلى رسام مناظر مسرحية وبخاصة لفرقة "لوبي دي فيغا" الإسبانية. وهو بدأ يعرض رسمومه محلياً، ثم في العاصمة ومن بعدها في المدن الأميركية الأخرى في عام 1951، كمنطلق لوصوله إلى المشاركة في معارض أوروبية وأميركية شمالية ما أمن له تلك المكانة التي يشغلها اليومة في الساحة الفنية العالمية...