تحتل أزمة النزوح والهجرة قمة الأزمات الدولية، وليس من المبالغة إذا ما أطلق عليها أزمة القرن، منذ الحرب العالمية الثانية، حيث تعيش أعداد أكبر من المهاجرين أكثر من أي وقت مضى في بلد غير البلد الذي ولدت فيه.
ويواجه العالم أجمع تحديات كثيرة، لمعالجة الأزمات التي سببتها الأزمة أساساً، أي النزوح والهجرة، أبرزها النقص في المساعدات الدولية، حيث يسعى الملايين حول العالم للهرب من الفقر والحروب وعدم الاستقرار إلى دول يعتبرونها مستقرة وقادرة على تأمين مستقبل أفضل لهم.
ووفقاً لتقرير الهجرة العالمية لعام 2020 الصادر عن المنظمة الدولية للهجرة، اعتماداً على إحصاءات من يونيو (حزيران) 2019، قدر عدد المهاجرين الدوليين بنحو 272 مليوناً، بزيادة 51 مليوناً عن عام 2010. وكان ثلثهم تقريباً من العمال المهاجرين.
وشكل المهاجرون الدوليون 3.5 في المئة من سكان العالم عام 2019. وهذا مقارنة بنسبة 2.8 في المئة عام 2000، و2.3 في المئة في عام 1980. هذه الأزمات تقلق المجتمع الدولي، ولهذا عقد قادة الدول الـ193 الأعضاء في الأمم المتحدة، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 في نيويورك أول قمة لمناقشة أخطر أزمة للهجرة منذ الحرب العالمية الثانية.
أعداد اللاجئين والمهجرين قسراً
كانت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أعلنت في تقرير الاتجاهات العالمية السنوي الصادر في يونيو (حزيران) 2021 عن تجاوز أعداد المهجرين قسراً حول العالم 82.4 مليون شخص بنهاية عام 2020 نتيجة للاضطهاد أو الحروب والنزاعات، منهم 26.4 مليون لاجئ نحو نصفهم دون سن الثامنة عشرة من العمر.
وتستضيف الدول النامية 86 في المئة من لاجئي العالم، بينما يعيش 73 في المئة من اللاجئين في دول مجاورة لبلدانهم، وهو الرقم الأعلى الذي تسجله المفوضية في تاريخها.
في المقابل، يعيش 20.4 مليون لاجئ تحت ولاية المفوضية، و5.6 مليون لاجئ فلسطيني تحت ولاية الأونروا، و45.7 مليون نازح داخلي، و4.2 مليون طالب لجوء، و3.6 مليون فنزويلي نازحون في الخارج. وهناك ملايين الأشخاص عديمي الجنسية، وحُرموا منها ومن الوصول إلى الحقوق الأساسية، مثل التعليم، والرعاية الصحية، والتوظيف، وحرية التنقل.
وفي التسعينيات من القرن الماضي، تمكن 1.5 مليون لاجئ تقريباً من العودة إلى ديارهم كل عام. وعلى مدى العقد الماضي، انخفض هذا العدد إلى حوالى 385 ألفاً.
الدول الأكثر استقطاباً للاجئين
تستضيف الدول منخفضة أو متوسطة الدخل 86 في المئة من لاجئي العالم. وتستضيف تركيا 3.7 مليون لاجئ، وهو أكبر عدد تستضيفه أي دولة في العالم، تليها كولومبيا وباكستان وأوغندا وألمانيا، حيث تستضيف كل منها أكثر من مليون شخص. خلال الأعوام القليلة الماضية، تحولت المساحة الممتدة بين ليبيا وإيطاليا في البحر المتوسط إلى ممر يزداد خطورة بصورة مطردة مع استخدامه من طرف اللاجئين والمهاجرين لدوافع اقتصادية؛ سعياً وراء حلم يائس بمستقبل أفضل أو أكثر أماناً في أوروبا.
الهجرة ملف سياسي أم إنساني؟
بدأت أزمة المهاجرين إلى أوروبا المعروفة أيضاً بأزمة اللاجئين، منذ عام 2015 بوصول عدد كبير من الأشخاص إلى الاتحاد الأوروبي عبر البحر الأبيض المتوسط، أو براً عبر جنوب شرقي أوروبا في أعقاب أزمة اللجوء في تركيا.
بدأت تلك الموجات من الهجرة في منتصف القرن العشرين وواجهتها العديد من الدول الأوروبية. لكن بداية شهدت تلك الموجات حركة تضامنية ضخمة مع المهاجرين من مواطني الدول الأوروبية، ووضعت منظمات دولية وأممية ومبادرات محلية وخطط حكومية في تصرف الهيئات التي كانت تعمل آنذاك على استيعاب موجات الهجرة، لتأمين ظروف معيشية لائقة نسبياً لهؤلاء المهاجرين.
لكن مع التغيرات التي شهدها العالم سياسية وديموغرافية لاحقاً، حولت معها قضية اللاجئين من ملف إنساني إلى وسيلة ضغط سياسية بيد بعض الدول. حيث باتت بعضها تمنع المهاجرين من الوصول إليها، عبر اقتراح قوانين غير إنسانية في أكثر الأحيان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فمثلاً إيطاليا أقرت بعض القوانين التي تمنع سفن الإنقاذ من الرسو في موانئها. وفي بريطانيا اقترحت حكومتها قوانين لمنع المهاجرين من القدوم إلى البلاد، اعتبرت عنصرية، ومن الاقتراحات احتجاز المهاجرين على جزيرة تخضع للسيطرة البريطانية جنوب المحيط الأطلسي، وهي أقرب لمدينة كيب تاون أو ريو دي جانيرو منها إلى لندن.
ولكن إذا ما اطلعنا على الإحصاءات التي تشير إلى أن واحداً من كل سبعة من الذين يعيشون في بريطانيا اليوم ولدوا خارج البلاد، نجد أن تلك الاقتراحات تعبر عن مخاوف حقيقية للدول الأوروبية.
فمسقط رأس نحو ثلاثة ملايين من المهاجرين، أي حوالى ثلث عدد المهاجرين الإجمالي، من بلد من بلدان الكومنولث كالهند وجامايكا وأستراليا ونيجيريا.
كان وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان دعا بريطانيا إلى فتح أبوابها أمام "الهجرة الشرعية" وتحمل "مسؤولياتها"، غداة اجتماع أوروبي، استبعدت منه لندن، في كاليه شمال فرنسا حول ملف الهجرة، نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بعد أيام من مأساة غرق 27 مهاجراً في قناة المانش.
ويحاول المهاجرون الوصول إلى الساحل البريطاني بشكل شبه يومي على متن قوارب متداعية عبر قناة المانش، فيما ارتفع عدد عمليات العبور منذ عام 2018 نتيجة تشديد الرقابة على ميناء كاليه والنفق الرابط بين ضفتي القناة.
وتفيد الأرقام التي نشرتها مفوضية الأمم المتحدة على موقعها، بأن إجمالي 2262 مهاجراً "ماتوا أو اعتبروا مفقودين" لدى محاولتهم اجتياز البحر المتوسط في 2018، مقابل 3139 في 2017، و3800 عام 2016.
وهذا ما يثير جدلاً واسعاً على الساحة السياسية الداخلية الأوروبية، خصوصاً بعد بروز أحزاب اليمين المتطرف التي بدأت تظهر بقوة على أرض الواقع. في السويد مثلاً تمكن حزب "الديمقراطيون السويديون"، المعروف بمجاراته أفكار النازيين الجدد، من اعتلاء المشهد السياسي وبات يحظى بفرصة للمشاركة في الحكومة المرتقبة، وكان لخطاب "معاداة الهجرة" دور بارز في نجاح ذلك الحزب، أخيراً.
البحر المتوسط "مقبرة عظيمة"
من هنا، كرس البابا فرنسيس جولته التي بدأت، الخميس 2 ديسمبر (كانون الأول) إلى قبرص واليونان للتركيز على قضيتي الحوار بين المذاهب المسيحية، وأزمة المهاجرين، وموضوع اللاجئين واستقبالهم.
وعبر عن ذلك عند وصوله إلى اليونان بالقول، إن أوروبا "تمزقها الأنانية القومية" حيال إدارتها أزمة الهجرة كما أن المجتمع الأوروبي "يواصل المماطلة" و"يعاني كما يبدو في بعض الأوقات من العجز وانعدام التنسيق" بدلاً من أن يكون "محركاً للتضامن" في مسألة الهجرة.
ودعا البابا للعودة إلى "السياسة التي تتسم بالصلاح". وفي رسالة مسجلة بالفيديو نشرها الفاتيكان قبل أيام من بدء جولته، وصف البحر المتوسط، بأنه تحول إلى "مقبرة عظيمة"، في إشارة إلى آلاف المهاجرين الذين غرقوا خلال محاولاتهم الهروب من نزاعات وحروب في بلدانهم في الشرق الأوسط إلى ملاذ آمن في أوروبا.
وفي رسالته بمناسبة الذكرى السنوية السبعين على تأسيس المنظمة الدولية للهجرة، نوفمبر الماضي، يقول "إن الهجرة ليست قصة مهاجرين فحسب، بل هي قصة عدم المساواة، واليأس، والتدهور البيئي، وتغير المناخ، وإنما أيضاً قصة الأحلام، والشجاعة، والدراسات في الخارج، ولم شمل العائلة، والفرص الجديدة، والسلامة والأمن، والعمل المجتهد وإنما الكريم".
قوارب الموت
قد تكون رسالة أحد المهاجرين العرب الذي ابتلعه البحر في أحد القوارب التي سميت "قوارب الموت"، من دون أن تعرف هويته تروي قصة آلاف المهاجرين الذين فروا من جحيم الحرب في سوريا والعراق وليبيا، أو الفقر والبطالة في أغلب البلاد العربية والأفريقية.
يقول فيها، "لا تحزني يا أمي إن لم يجدوا جثتي، فماذا ستفيدك الآن إلا تكاليف نقل وشحن ودفن وعزاء... أحلامي لم تكن كبيرة كالآخرين، كل أحلامي كانت بحجم علبة دواء للكولون لك، وثمن تصليح أسنانك".
وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى النمو في عدد المهاجرين الدوليين على امتداد العقدين الماضيين، حيث بلغ عدد الأشخاص الذين يعيشون خارج بلدانهم الأصلية، 281 مليون شخص في عام 2020 بعد أن كان 173 مليوناً في عام 2000 و221 مليوناً في عام 2010.
حيث يمثل المهاجرون الدوليون حالياً حوالى 3.6 في المئة من سكان العالم، إلا أن البلدان العربية تشكل مجالاً كبيراً لهذه الظاهرة، فيما يشكل الاتحاد الأوروبي الوجهة الرئيسة للهجرة العربية.
ستبقى في هذا المجال صور الطفل إيلان الذي قذفته أمواج البحر إلى الشاطئ جثة هامدة دليلاً على تقاعس الدول المتقدمة في مساعدة آلاف اللاجئين، الطفل إيلان كان بين مجموعة من المهاجرين السوريين الذين غرقوا عندما انقلب بهم زورق يقلهم من بودروم التركية إلى جزيرة كوس اليونانية. وكان بين القتلى شقيقه، خمس سنوات، ووالدته 28 عاماً، فيما نجا والده.
التغريبة السورية
لكن يبقى المشهد السوري الأبرز مع موجة اللجوء التي اجتاحت شعبه بعد الحرب السورية، في أكبر تغريبة من بعد التغريبة الفلسطينية.
ويختصر تعبير سيدة مسنة تحدثت إلى الإعلام معاناة شعب بأكمله، "الابن الأكبر لجأ إلى ألمانيا، أما الأوسط ففي النمسا، في حين ينتظر الأصغر في تركيا. وما بين الأوسط والأصغر خسرت اثنين في الحرب والثالث مفقود. أما البنات فقد استقررن مع أزواجهن في المخيمات المنتشرة على الحدود في لبنان والأردن"، إذ لا توجد دولة في العالم، لم يتجه إليها لاجئ سوري.
تشير أرقام الأمم المتحدة إلى أن أكثر من نصف الشعب السوري بات لاجئاً في دول العالم المختلفة، أو نازحاً داخل بلده، في أكبر أزمة نزوح في جميع أنحاء العالم، مع نزوح أكثر من 6.7 مليون سوري داخل البلاد، واستضافة تركيا ولبنان والأردن والعراق ومصر لنحو 5.5 مليون لاجئ، ومئات الآلاف منتشرون في 130 دولة، ويعاني 70 في المئة من هؤلاء اللاجئين من فقر مدقع، من دون الحصول على الغذاء والماء والخدمات الأساسية.
وتداول، أخيراً، مدونون بشكل واسع هاشتاغ "أنا لاجئ" على مواقع التواصل الاجتماعي ضمن حملة رقمية روى فيها اللاجئون جزءاً من معاناتهم في رحلة البحث عن حياة أفضل وأكثر أماناً بعيداً من أوطانهم. وشهدت الحملة تفاعلاً كبيراً ووجدانياً من قبل اللاجئين السوريين، الذين تحدثوا عن المخاطر التي عايشوها، والعنصرية التي يواجهوها، والأسباب التي دفعتهم للهرب من ظلم النظام السوري.