على الرغم من أن سماح المحكمة العليا في لندن بتسليم جوليان أسانج، مؤسس موقع "ويكيليكس"، من بريطانيا إلى الولايات المتحدة لا يمنع استئناف الحكم، فإنه يقرب أسانج، الأسترالي الجنسية، خطوة أخرى من الفصل الأخير لقصته المثيرة التي شغلت العالم لسنوات، واختلفت فيها الآراء بين من يعتبرونه ضحية لحرية الرأي ونشر المعلومات التي يكفلها الدستور الأميركي، ومن يراه جاسوساً أضر بالمصالح الأمنية للولايات المتحدة وحلفائها عن عمد، ما يستلزم محاكمته.
فلماذا طالت قصته، وما السبب وراء إصرار واشنطن على تسلّمه؟
سبب الملاحقة
ليس هناك من شك في أن الحكومة الأميركية تشعر الآن بالانتصار بعد حكم الاستئناف الصادر في لندن، الذي أسقط حكماً سابقاً منع تسليم أسانج إلى الولايات المتحدة، ما سيمكن واشنطن من توجيه 18 اتهاماً بالتجسس ضد مؤسس "ويكيليكس" من بينها التآمر لاختراق قواعد البيانات العسكرية الأميركية وانتهاك قانون التجسس والتآمر لاختراق أجهزة الكمبيوتر الحكومية ونشر معلومات أمنية ودفاعية ودبلوماسية حساسة أضرت بالأمن القومي الأميركي.
وفي حين نقلت المحكمة القضية إلى وزيرة الداخلية البريطانية، بريتي باتيل، لاتخاذ القرار النهائي في شأن تسليم أسانج البالغ من العمر 50 عاماً، إلا أن محامي المتهم وخطيبته يسعون للطعن في الحكم أمام أعلى محكمة استئناف في البلاد. مع ذلك، فإن فرص استئناف الحكم وقبوله بدعوى المخاوف المتعلقة بالصحة العقلية لأسانج وإمكانية إقدامه على الانتحار في أميركا، ما زالت غير واضحة.
غير أن إصرار الولايات المتحدة على تسلّم أسانج، إذ يوجد حالياً في سجن بلمارش شديد الحراسة في لندن، يتجاوز على ما يبدو محاكمته في محكمة أميركية، حيث يواجه أحكاماً بالسجن تصل إلى 175 عاماً، أو الانتقام لنشره عبر موقع "ويكيليكس" آلاف الوثائق الدبلوماسية والعسكرية السرية في عامي 2010 و2011 حول حربي أفغانستان والعراق، والتي يعتبر المدعون الأميركيون أنها عرضت مئات الأرواح للخطر، ولكنها على الأرجح بحسب ما يقول متخصصو أمن سابقون في واشنطن، تتعلق بكرامة الولايات المتحدة وبالإحراج والاضطراب اللذين سببهما أسانج وأعوانه لأجهزة استخباراتها أكثر من مرة.
ناشر أم جاسوس؟
وعلى الرغم من أن أسانج يجد بعض التعاطف من قبل عدد من المنظمات الحقوقية، مثل منظمة العفو الدولية التي اعتبرت التهم الموجهة إليه ذات دوافع سياسية، ويجب إسقاطها، أو من بعض الصحافيين الذين يرون نشر المعلومات التي تجدها الحكومات غير ملائمة هو حق نشر مكفول يرتبط بالصحافة الحرة من دون أن تتعرض للتهديد من قوة عظمى متنمرة مثل الولايات المتحدة، فإن قصة أسانج الطويلة تثير كثيراً من التساؤلات حول حقيقة كونه صحافياً وناشراً حصل على عدد من الجوائز بما في ذلك جائزة "إيكونوميست نيو ميديا" عام 2008، وجائزة "مارثا جيلهورن للصحافة" في 2011، أم أنه جاسوس استخدمته أجهزة استخبارات معادية للولايات المتحدة والغرب لتحقيق أغراضها، بحسب ما تعتقد الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي أي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا يعود وجود أسانج في سجن بريطاني إلى أي من الاتهامات بالتجسس، على الرغم من أنه أمضى معظم العقد الماضي في الحبس، ولكن الأمر بدأ عام 2012، عندما لجأ إلى سفارة الإكوادور في لندن، واستمر داخلها سبع سنوات، بعد أن خسر استئنافاً أمام المحكمة العليا في المملكة المتحدة لتسليمه إلى السويد، حيث وجهت إليه مزاعم بالاغتصاب. وبعد إسقاط قضية الجرائم الجنسية في السويد، في وقت لاحق، تم إخلاء سبيل أسانج من السفارة في أبريل (نيسان) عام 2019، لكنه احتُجز بتهمة عدم سداد كفالة قانونية في المملكة المتحدة، وحكم عليه بالسجن لمدة 50 أسبوعاً، ولا يزال محتجزاً بسببها.
لكن الأضواء لم تلاحق أسانج إلا في عام 2010، أي بعد نحو أربعة أعوام من إطلاقه موقع "ويكيليكس" على شبكة الإنترنت.
البداية من "ويكيليكس"
عندما أطلق موقع "ويكيليكس"، في ديسمبر (كانون الأول) 2006، كان الموقع نموذجاً غير مسبوق تقريباً على الشبكة، إذ يمكن لأي شخص من أي مكان حول العالم، نشر الأسرار والمعلومات التي يحصل عليها على هذا الموقع من دون الكشف عن هويته للنشر. مع ذلك، لم يحظ أسانج، الذي قاد الموقع، بكثير من الاهتمام حتى عام 2010، عندما نشر لقطات مصورة لغارة جوية شنّتها مروحيات تابعة للجيش الأميركي في بغداد عام 2007، وأسفرت عن مقتل 12 شخصاً، من بينهم صحافيان من وكالة "رويترز"، وإصابة طفلين.
وفي وقت لاحق من ذلك العام، نشر "ويكيليكس" وثائق حكومية أميركية سرية وحساسة تتعلق بحربي أفغانستان والعراق، بالإضافة إلى أكثر من 250 ألف برقية دبلوماسية أميركية، ما جعل بعض الدوائر الإعلامية تعتبر أسانج بطلاً، فيما اعتبره آخرون نموذجاً سيئاً وشريراً، لكن وكالات الاستخبارات الأميركية كانت منشغلة بكيفية التعامل مع موقع "ويكيليكس"، الذي يعمل بشكل مختلف وغير مسبوق عن وسائل الإعلام الإخبارية التقليدية، وسط ارتباك ملحوظ من المسؤولين الحكوميين الذين انقسموا بين مدافعين عن الصحافة باعتبار "ويكيليكس" مؤسسة صحافية مستقلة، وبين آخرين اعتبروه جهة تقدم خدمات تجسس أجنبية، بحسب ما أفاد مسؤولون سابقون في مكافحة التجسس في الولايات المتحدة لموقع "ياهو نيوز" قبل أسابيع.
تردد وارتباك
غير أن إدارة الرئيس باراك أوباما، آنذاك، التي خشيت من عواقب تدخلها ضد "ويكيليكس" بسبب حرية الصحافة أو الخوف من رد الفعل الناجم عن تسريباته، دفعها إلى تقييد التحقيقات ضد أسانج و"ويكيليكس"، أو المشاركة في جمع معلومات استخبارية ضد الموقع، بما في ذلك مراقبة الإشارات أو رصد العمليات الإلكترونية.
لكن ذلك تغير عام 2013، عندما هرب إدوارد سنودن، الذي عمل في وكالة الأمن القومي، إلى هونغ كونغ مع مجموعة ضخمة من المعلومات السرية، التي كشف بعضها عن أن الحكومة الأميركية كانت تتجسس بشكل غير قانوني على الأميركيين. واتضح أن قادة في "ويكيليكس" ساعدوا في ترتيب هرب سنودن إلى روسيا عبر هونغ كونغ. ورافق محرر "ويكيليكس" سنودن إلى روسيا، ومكث معه خلال إقامته لمدة 39 يوماً في مطار موسكو، ثم عاش معه لمدة ثلاثة أشهر بعد أن منحت روسيا سنودن حق اللجوء إلى أراضيها.
متابعة وتحقق
في أعقاب اكتشاف هرب سنودن، سمحت إدارة أوباما لمجتمع الاستخبارات بإعطاء الأولوية لجمع المعلومات عن "ويكيليكس". من هنا، عملت الاستخبارات الأميركية عن كثب مع وكالات تجسس صديقة لبناء صورة عن شبكة اتصالات "ويكيليكس"، وربطها مرة أخرى بأجهزة الاستخبارات المعادية لأميركا، وفقاً لما قاله مسؤولون أمنيون سابقون لموقع "ياهو نيوز"، إذ كانوا في حالة من الغضب بسبب القيود المفروضة، وضغطوا على البيت الأبيض لإعادة تعريف موقع "ويكيليكس".
وبحلول عام 2015، كان "ويكيليكس" موضوع نقاش حاد بشأن إذا ما كان ينبغي استهداف المنظمة من قبل وكالات إنفاذ القانون أو وكالات التجسس، لكن في صيف 2016، وفي ذروة موسم الانتخابات الرئاسية، نشر "ويكيليكس" رسائل بريد إلكتروني للحزب الديمقراطي، ما جعل مجتمع الاستخبارات الأميركي يستخلص، في وقت لاحق، أن وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية اخترقت رسائل البريد الإلكتروني. ورداً على التسريب، بدأت وكالة الأمن القومي مراقبة حسابات "تويتر" لعملاء الاستخبارات الروسية المشتبه فيهم، الذين كانوا ينشرون رسائل البريد الإلكتروني المسربة للحزب الديمقراطي، وذلك قبل فترة وجيزة من فوز دونالد ترمب في انتخابات 2016.
استهداف أسانج
وعلى الرغم من أن البعض اعتبر أن ترمب استفاد من تسريبات البريد الإلكتروني للحزب الديمقراطي، فإن إدارته اتخذت موقفاً صلباً تجاه مؤسس "ويكيليكس". ففي 2017، عندما بدأ أسانج عامه الخامس في سفارة الإكوادور في لندن، خططت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، التي كان يرأسها مايك بومبيو، لاختطافه. وناقش بعض المسؤولين قتله، فضلاً عن التجسس المكثف على شركاء "ويكيليكس"، واختراق أجهزتهم الإلكترونية، بحسب "ياهو نيوز" الذي لم تنفِ السلطات الأميركية الحالية أو السابقة فحوى ما نشره، لكن الوكالة تراجعت في النهاية عن جميع هذه الخطط والأفكار بعد التشاور مع البيت الأبيض وكبار المسؤولين.
لكن خطط شن حرب شاملة ضد أسانج تزايدت بعد نشر "ويكيليكس" عام 2017 سلسلة من الوثائق التي تشمل أدوات وقدرات حساسة تستخدمها "سي آي أي" في عمليات التجسس والاختراق، والمعروفة باسم "فولت 7"، التي اعتبرت الوكالة أنها تمثل أكبر خسارة للبيانات والمعلومات السرية في تاريخها، ما جعلها تعتبر "ويكيليكس" أشبه بجهاز استخبارات مُعادٍ، وإن كان لا يتبع دولة. ودفع عملاء الوكالة إلى اتخاذ إجراءات أكثر عدوانية ضده.
وفي أواخر 2017، في خضم الجدل الدائر حول الاختطاف، انقلبت خطط الوكالة رأساً على عقب، عندما التقط المسؤولون الأميركيون ما اعتبروه تقارير مقلقة تفيد بأن عملاء الاستخبارات الروسية كانوا يستعدون للتسلل إلى أسانج في المملكة المتحدة وإرساله بعيداً إلى موسكو. والتقطوا إشارات بأن المسؤولين الإكوادوريين بدأوا جهوداً لمنح أسانج صفة دبلوماسية كجزء من مخطط لمنحه غطاء لمغادرة السفارة والتوجه إلى موسكو للعمل في بعثة الإكوادور الدبلوماسية هناك.
ورداً على ذلك، بدأت "سي آي أي" والبيت الأبيض الإعداد لمجموعة من السيناريوهات لإحباط خطط مغادرة أسانج إلى روسيا. وفي النهاية، خلصت الإدارة الأميركية إلى تقديم مذكرات إدعاء للمطالبة بتسليم أسانج كأفضل حل للقضية ومن دون الاضطرار إلى اتخاذ إجراءات ضد "ويكيليكس" الذي أصبح قديماً من وجهة نظر المسؤولين. ولكن، في الوقت نفسه، منحت إدارة ترمب عام 2018، وكالة الاستخبارات المركزية سلطات سرية جديدة للقيام بالنوع نفسه من عمليات القرصنة التي استخدمت فيها الاستخبارات الروسية "ويكيليكس"، إذ نشرت معلومات سرية عبر الإنترنت حول شركة روسية عملت مع جهاز التجسس في موسكو.
وفي ما يبدو أن حروب الاستخبارات متواصلة، لم تعد الرغبة في الانتقام من أسانج هي الدافع وراء محاكمته، بقدر ما كان الدافع هو دفع الإحراج والاضطراب اللذين سببهما لمجتمع الاستخبارات الأميركي.