المحظرة جامعة بدوية موريتانية يشرف عليها شيخ يدرّس علوم القرآن والحديث والسيرة والفقه والنحو والصرف والبلاغة والمنطق والحساب وأيام وأنساب العرب، على مدى 16 ساعة يومياً. ومن تقاليدها، أن يبدأ الطالب دراسة النص يوم الأربعاء آخر أيام الدراسة الخمسة التي تبدأ بيوم السبت، لما في بعض الآثار من أنه ما بُدئ شيء يوم الأربعاء إلا وقد صلح. أما الخميس والجمعة فهما عطلتان يستطيع الطالب أن يختار فيهما إما المراجعة أو نسخ الكتب أو الراحة أو تبادل الزيارات... إذاً، ما هي طبيعة المناهج والمقررات الدراسية في هذه الجامعة التي لم تجد بعد ما تستحق من الدراسة والبحث؟ وماذا عن أدوات الكتابة وأنواعها لدى طلابها؟ وما هي أهم مصادر عيش روادها؟ وما طبيعة علاقتها بمحيطها؟ وكيف هي سمرياتها وأشعارها؟
القراءة والكتابة
يستخدم طلاب المحظرة اللوح المصنوع من جذوع الشجر للقراءة، وفي كل مرة يُغسل الدرس الأقدم كتابة. وللكتابة على اللوح، يُستخدم المداد المعروف بـ"الصمغه" (وهي محلول الصمغ)، ومكوناتها الفحم والعلك والماء، وتصنع في أداة تسمى "آدگي": وهو حجر منحوت الوسط. وللطلاب شغف قوي باللوح. يقول ولد حنبل الحسني: عم صباحاً أفلحت كل فلاح/ فيك يا لوح لم أطع ألف لاح/ أنت يا لوح صاحبي وأنيسي/ وشفائي من غلتي ولُوَّاحي. وللكتابة على الورق يستخدم أهل المحظرة المداد الأسود والأحمر والأخضر والأصفر. يقول أبو محمد ولد أحمد الخديم (فقيه وشيخ محظري) إن "صناعة المداد الأسود تتطلب مرجلاً يسخن فيه ماء مع حبات من القرظ (المعروف محلياً بـ"الصلاحه") وشيء من الصمغ وبعض ورق شجر السلم (المعروف بـ"التمات") ومن ثم يعلق على شجرة المصلى لتضفي عليه نوعاً من الحصانة، ويتعهده الطلاب بالخض على مدى ثلاثة أيام. أما المداد الأحمر فيصنعونه من حجر يدعى "الحُمّيرة"، إضافة إلى الماء والصمغ. وتحك الحمّيرة وتصب في كمية من الماء. كما يصنعون المداد الأصفر من ورق شجر يسمى "تالولاكة". وبالنسبة إلى المداد الأخضر فيستخدمون لصنعه مرّارة الماشية". أما الأقلام، فأكثرها انتشاراً يدعى "أجريد" المصنوع من سعف النخل. ويحدثنا ولد أحمدُ الخديم عن الخط المحظري فيقول، "هو خط أندلسي تنقط فيه القاف واحدة من فوق، والفاء واحدة من تحت، والفاء الأخيرة يكتبونها مطلقة مع السطر (ف) والقاف معكوفة إلى فوق (ق) ويردون الياء إلى الوراء في نحو لي: (تصبح ياؤها هكذا ے) وأكرمن ي (تصبح ياؤها هكذا ے)، ولا ينقطون حروف: "ي" "ن" "ف" "ق" إذا كانت في آخر الكلمة.
كتابة المصحف
وفي كتابة المصحف يكتبون الهمزة القطعية نقطة صفراء نحو ﴿قالوا أنؤمن﴾، والمسهلة بنقطة حمراء نحو ﴿أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت﴾، وعلامة الابتداء بهمز الوصل بنقطة خضراء نحو ﴿ومن اهتدى اقترب﴾، كما يكتبون الصاد والضاد بيضويتي الشكل أو مقوستي الأعلى. وفي الخط المحظري ينتشر "التشرقي"، وهو نوع من الكتابة الدقيقة، يكتبون الدال والذال فيها على شكل الراء والزين في حين أن الراء والزين يعيدونهما إلى الوراء ومن ثم إلى الأمام". ومن تقاليدهم استخدام اللون الأحمر لكتابة المتن، والأسود لكتابة الشرح. وإذا كتبوا الحاشية باللون الأسود يضعون عليها علامة "ح" أو "ط". أما الأنظام التي هي من مكونات الطرة فتكتب باللونين الأحمر والأسود وبخط أرق من الخط الذي يكتبون به نصّيْ ابن مالك وولد بونا.
مصادر العيش
يعتمد الطلاب في عيشهم على لبن بقرة يأتون بها إلى المحظرة ويستبدلونها بأخرى كلما تناقص لبنها. ويكثر في أشعارهم الحديث عنها، وشكواها. يقول أحدهم: ألا قبح الرحمن عادة خلفنا/ فليس لعمري الدهرَ يُرجى فلاحُها/ قليلاتِ ألبان كثيرٍ شرابها/ كثيراتِ إرضاع قليلٍ رواحُها. ومن مصادر العيش عندهم "شاة العادة"، وهي شاة يعطيها المتزوج لطلاب المحظرة. كذلك أيضاً "شاة الاسم" التي يدفعها لهم والد المولود. ومنها أيضاً "المُد" من الزرع أو الأرز، تدفعه القافلة عندما تمر قرب المحظرة.
رسائل مشفرة
هناك أيضاً الرسالة المعروفة بـ"براوة التلاميد". فعندما تحل عطلة الأسبوع يخرج الطلاب إلى الأحياء المجاورة، يلتمسون العون فيقرؤون رسالة تحض على العطاء. ومن مصادرهم "التازوَّه": وهي إناء كبير يجرونه يوم الأربعاء الأخير من الشهر، بخاصة في حال تأخر المطر، وهم يرددون أناشيدهم. ومن مصادرهم أيضاً "خيراً منكُن"، وموسمها قدوم رجال الحي من الغيبة. يأتي الطلاب إلى المستهدفين، فإذا لم يجدوا عطاء قرأوا الآية "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن". وتعدّ "الختمة" من مصادر عيش طلاب المحظرة، فإذا أكمل الطالب ربع القرآن يختار الطلبة أحسنهم خطاً فيكتب الدرس الأخير من الربع ويطوفون في الأحياء يستجدون الناس بترتيله. ومن مصادر عيشهم عائدات الرسائل التي يلتمسون فيها العون من أهلهم. يقول لكبيد ولد جبه: خليلي بلغ إذا ما تلم/ بأهلي سلامي كُفيت المهم/ بأني غريب ولا ثوب لي/ وعهدي بالزاد عهدي بهم. وتارة تكون الرسائل إلى الأهل مشفرة كي لا يطلع حاملها على فحواها، كرسالة أبي مدين ولد الشيخ أحمدُ التي يقول فيها: "سلام مما يندر نقصه عند النحاة، مضافاً إلى ما أضيفت إليه ماء في القرآن، موجبه أن تبعثوا إلينا بشيء مما أنزل الله على بني آدم، والسلام". ولشرح الرسالة، فإن الذي يندر نقصه عند النحاة هو "أب" يضاف إلى ما أضيفت إليه "ماء" في القرآن أي "مدين" (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ)، وما أنزل الله على بني آدم هو اللباس (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ). والمعنى هو أن أبا مدين يطلب من أهله أن يرسلوا له لباساً. ومن عادتهم أن يكون الغداء بالأرز والهبيد، ويسمونه "الدرنيف"، والعشاء بالعيش (وهو طبق من دقيق الزرع).
مساكن الطلاب
يسكن طلاب المحظرة في أعرشة يدعونها "التهاله". ويتكون العريش من جذوع شجر الثمام (المدعو "أم ركبة")، وهو دائري الشكل، وسطه سارية تسمى "السلطانه"، ويكثر ذكره في أدب المحظرة. كذلك يسكنون الخيمة، وقد يدعونها "الخباء". ويكثر ذكرها في إنتاجهم.
المنهج المحظري
يدرّس شيخ المحظرة تلامذته خدمة للعلم لا يريد منهم جزاء ولا شكوراً... ويتم التدريس في عريش مخصص لذلك أو في خيمته أو تحت شجرة. ويعلق ولد أحمدُ الخديم قائلاً "يبدأ التدريس قبيل صلاة الصبح، إلى ما بعد صلاة العشاء، ويتبع الشيخ طريقة "الأول فالأول"، وتقدم "الدولة" (وهي الجماعة المشتركة في نص واحد) على غيرها. وينطلق المنهج المحظري من مسلمات منها، أنه لا يحبس ذكي على غبي، وأن مقدار الدرس بحسب الاستيعاب. وفي المساء يأتي الطلاب إلى الشيخ فيلقي عليهم البيت والبيتين للتدريب على التمييز أولاً، ثم يتدرج بهم إلى معرفة المبتدأ والخبر والفاعل والمفعول...". فللإعراب مكانته الخاصة عند رواد المحظرة. ومن عادة طلاب المحظرة الاعتداد والاعتزاز بالمحظرة وزملاء الدراسة، يقول الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيدي: وكم سَامرت سُمَّارًا فُتُوًّا/ إلى المجد انتموا من مَحتِدَينِ/ حووا أدباً على حسب فداسوا/ أديم الفرقدين بأخمصين
الندوة الشعرية
عادة ما يتسامر طلاب الجامعة البدوية الموريتانية بالشعر. وتعتبر "الندوة الشعرية" من أشهر أنواع السمر عندهم، فكل مجموعة تقوم بها وحدها، وربما وقع فيها التنافس بين مجموعتين. وغالباً ما تبدأ بـ: بحمد الله أفتتح المقالا وأحمده وأشكره تعالى وشكل الندوة هو أن يكون الحرف الأخير من بيت البادئ هو بداية بيت الموالي وهكذا. وتخضع الندوة تارة للتعقيد كأن تكون في "الطويل" من دون غيره مثلاً. وقد تنتهي الندوة الشعرية بقرض الأنظام الهزلية التي يعالج بها الطلاب التعب النفسي والذهني. المحظرة البدوية أو جامعات الصحراء التي لا تزال منتشرة في بلاد شنقيط (الاسم القديم لموريتانيا) كذبت المقولة الخلدونية التي تقول أن العلم مدني بالفطرة... وخرجت المحظرة الشنقيطية علماء أفذاذاً بهروا بعلمهم وتمكنهم من ناصية اللغة علماء الأزهر والزيتونة والقيروان والحجاز، وتولى بعضهم مناصب قيادية في التدريس والقضاء بمصر والسودان والأردن والسعودية والكويت والعراق.