بعد نجاح المؤسسات القضائية الليبية في النأي بنفسها من الدخول في أتون الصراع السياسي المحتدم لعقد الكامل، بدأ القضاء يُجر إلى قلب النزاع ليصبح شيئاً فشيئاً طرفاً بارزاً في اللعبة السياسية، لاستغلال دوره الحاسم في فصل النزاعات القانونية حول أحقية المرشحين في المنافسة على الكرسي الرئاسي والمقاعد البرلمانية.
وبسبب الجدل الذي رافق استبعاد بعض المرشحين للرئاسة أو إرجاعهم بأحكام قضائية إلى المنافسة عليها، واتهامات بعض الأطراف للقضاة إما بالانحياز لمرشحين بعينهم أو تلقي رشى لتمرير ملفات آخرين، أصدر مجلس النواب جملة من القرارات أعاد من خلالها هيكلة النظام القضائي، وأجرى تغييراً شاملاً على مستوى قيادته بالمجلس الأعلى للقضاء.
هذه الخطوة التي اتخذها البرلمان، في توقيت حساس جداً قبل أيام من الانتخابات الرئاسية، اعتبرت دليلاً جديداً على نيته تأجيلها عن موعدها المحدد، وإجراء مراجعة شاملة لكل الإجراءات التي اتخذت في مرحلة الطعون، كما زادت المشهد انقساماً بسبب رفض البعض المساس بالقضاء والتعدي على استقلاليته التي تفرد بها طوال السنوات الماضية.
تغييرات جذرية
في المقابل، أصدر مجلس النواب قانوناً بشأن تعديل بعض أحكام قانون نظام القضاء يجعل رئيس التفتيش القضائي رئيساً للمجلس الأعلى للقضاء، بعد أن كان رئيس المحكمة العليا هو من يتولى هذا المنصب، وبناء عليه لم يعد رئيس المحكمة العليا محمد الحافي رئيساً للمجلس.
وبحسب نص القانون، "يعين النائب العام نائباً للرئيس، وينتخب مستشار عن كل محكمة استئناف تنتخبه جمعيتها بالاقتراع السري، وعضو من كل من إدارة القضايا وإدارة المحاماة العامة وإدارة القانون لا تقل درجته عن الدرجة المعادلة لدرجة مستشار بمحكمة الاستئناف، ينتخبه من هم بدرجته من أعضاء الإدارة بالاقتراع السري".
وجاء في نص المادة الأولى من القانون أنه "فيما عدا منصب رئيس المجلس ونائبه تكون عضوية المجلس لمدة ثلاث سنوات على سبيل التفرغ"، لافتاً أن "المجلس يضع بقرار منه آلية الترشح والتحقق من توافر الشروط في المرشحين لعضوية المجلس وإجراءات الاختيار ويشرف عليها".
ونصت المادة الثانية على أن "تختص الدائرة الإدارية بالمحكمة العليا بالفصل في الطعن على قرارات المجلس الأعلى للقضاء النهائية، وتتصدى لموضوع الطعن حال قبوله بالإجراءات ذاتها التي تخضع لها الطعون على القرارات الإدارية".
قانون قديم
ورداً على الانتقادات التي وجهت للقانون البرلماني بإعادة هيكلة القضاء الأعلى وتصنيفه بأنه صدر لتسييس القضاء، قال عضو مجلس النواب الهادي الصغير إن "قانون هيكلة النظام القضائي صدر في جلسة رسمية للمجلس عام 2019 والتي ترأسها رئيس البرلمان المستشار عقيلة صالح، وليس محدثاً حتى يتم التشكيك في الغرض من إصداره في هذا التوقيت".
وأضاف أن "تفعيل قانون قانون هيكلة النظام القضائي كان بناء على مراسلة من المجلس الأعلى للقضاء إلى مجلس النواب في ديسمبر(كانون الأول) الحالي".
بداية أزمة
وفي اليوم التالي لإصدار القانون المثير للجدل بدأت تتشكل بوادر أزمة وبداية انقسام للمؤسسات القضائية، ودخولها في الجدل حول الشرعية الذي أدى إلى تشظي غالبية المؤسسات الليبية خلال السنوات الـ 10 الماضية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وجاء ذلك بعد نفي رئيس المحكمة العليا محمد الحافي الذي أقيل بحكم هذا القانون من منصب رئيس المجلس الأعلى للقضاء، فطلب المجلس من مجلس النواب إصدار قانون لهيكلة النظام القضائي.
وقال الحافي إنه "لم يتم إبلاغه بعقد أي اجتماع للمجلس، وأن الجلسة التي تولاها الرئيس المعين من البرلمان مخالفة للقانون، ولم يخطر بأي بلاغ رسمي بإعادة تشكيل المجلس".
وبين أن "الآلية القانونية هي أن يتم تعميم القانون وتخطر به الأطراف المعنية المتمثلة في المحكمة العليا والمجلس الأعلى للقضاء، وتحدد بعدها جلسة رسمية للتسليم والتسلم".
وشكك الحافي في "آلية إصدار القانون الصادر عام 2019، وأنه لا يعلم ما هدف خروجه في هذا التوقيت"، مؤكداً "مواصلته مهمات عمله رئيساً للمجلس الأعلى للقضاء والمحكمة العليا، باعتباره لم يتلق أي إخطار رسمي صادر عن الجهات المعنية".
نزاع داخل البرلمان
الخلاف حول هيكلة النظام القضائي في الوقت الذي تقف فيه البلاد على مشارف الانتخابات العامة، بدأ داخل البرلمان الليبي قبل أن يمتد إلى خارجه، إذ صرح رئيس مجلس النواب المكلف فوزي النويري أنه "يجري التحقق من القانون المتداول المنسوب إلى البرلمان بشأن إجراء تعديلات على نظام القضاء".
وقال النويري إنه "يعمل على التحقق من وجود جلسة مسجلة والتي يدعى أنها عقدت يوم 20 سبتمبر (أيلول) 2019، والتأكد من عرض القانون خلالها"، لافتاً إلى أنه "في حال ثبوت عدم انعقاد الجلسة المذكورة سوف تتخذ كافة الإجراءات القانونية حيال ذلك".
في المقابل، قالت عضو مجلس النواب أسماء الخوجة إن "غالبية النواب لم يحضروا جلسات البرلمان في الوقت الذي صدر فيه القانون بسبب الحرب على طرابلس وقتها".
وتابعت، "لا نعلم شيئاً عن هذا القرار ولا من أصدره ولا العدد الذي حضر هذه الجلسة، وإظهار القانون في هذا التوقيت وهذه المرحلة الحرجة هدفه سياسي للنيل من مؤسسة القضاء قبيل إجراء الانتخابات".
البعثة تدعم المؤسسة القضائية
وفي السياق، عبرت البعثة الأممية عن موقفها من النزاع الدائر حول القضاء بعد لقاء المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا ستيفاني وليامز مع رئيس مجلس القضاء الأعلى المقال من منصبه محمد الحافي، وحمل إشارات واضحة لرفض القانون البرلماني الذي أجرى تغييرات جذرية على المؤسسة القضائية.
وقالت وليامز عبر حسابها على "تويتر"، "التقيت رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي محمد الحافي في مقر المحكمة العليا بطرابلس، واتفقنا على الأهمية الحاسمة للحفاظ على وحدة القضاء واستقلاليته بعيداً من كل النفوذ السياسي والخلافات".
وأشارت المبعوثة الأممية إلى رغبة البعثة الدولية في التحقيق بملابسات الأحداث التي رافقت إصدار الأحكام القضائية بحق المترشحين للرئاسة خلال الأسابيع الماضية، قائلة إن "الأمم المتحدة لن تتهاون مع الترهيب والاعتداء على القضاة والأجهزة القضائية".
ضربة للمؤسسات المستقلة
محاولة تحويل القضاء الليبي إلى طرف في الصراع السياسي بالبلاد ضربة قاضية للمؤسسة الوحيدة التي حافظت على توازن نسبي في المشهد، ويعول عليها في إنقاذ البلاد إذا ساءت الأمور أكثر، بحسب الصحافي الليبي فرج الشطشاط .
ويرى الشطشاط أن "انقسام المؤسسة القضائية في هذا التوقيت الحرج سيفتت آخر مؤسسة متماسكة في البلاد من بين السلطات الثلاثة التي من المفترض أن تعبر بها إلى بر الأمان، بعد تفتت المؤسسات التشريعية والتنفيذية".
ويضيف أن "انقسام المؤسسة القضائية يعني ضياع البلاد تماماً بسبب الظروف التي تمر بها، والدور المحوري للقضاء في حسم النزاعات والفصل فيها، ويجب التحرك لمنع انزلاقه إلى مستنقع الصراع السياسي قبل فوات الأوان، لأنه إذا فقد استقلاله وحياده فقد قيمته وطبيعة دوره ونزاهة قراره".