ملخص
عندما يُدون حق في الدستور أو يضاف تعديل دستوري، فإن الطريقة الوحيدة للتراجع عنه هي جعل المحكمة العليا تصدر قراءة جديدة للقانون، أو تعديل الدستور، لكنه أمر نادر جداً وصعب جداً، إذ يتطلب غالبية ساحقة من الدعم تتمثل في ثلثي غرفتي الكونغرس، ثم التصديق من قبل ثلاثة أرباع المجالس التشريعية للولايات الأميركية الـ50 وهي مهمة شاقة لأي تحالف سياسي في أي وقت.
فيما جدد الرئيس الأميركي دونالد ترمب انتقاداته حق المواطنة بالولادة، الذي يحميه التعديل الـ14 من الدستور الأميركي، مؤكداً عزمه استخدام مجموعة من الإجراءات التنفيذية لحظره، إلا أن هذه الإجراءات التي تشمل توجيه وزارة الخارجية بعدم إصدار جوازات سفر للأطفال الذين ينتمون إلى آباء من المهاجرين غير الشرعيين، وتشديد متطلبات تأشيرات السياحة للقضاء على سياحة الولادة، يمكن أن تواجه بتحديات قانونية من المحتم أن تصل إلى المحكمة العليا الأميركية. فما السيناريوهات المطروحة أمام ترمب؟ وهل يمكن أن تخذله المحكمة العليا التي يسيطر عليها المحافظون؟
عزم أكبر
فعلى رغم أن ترمب اشتكى منذ عام 2019 خلال ولاية حكمه الأولى من حق المواطنة بالولادة في الولايات المتحدة الذي ظل سارياً في البلاد منذ نحو قرن ونصف القرن استناداً إلى التعديل الـ14 من الدستور الأميركي، فإنه كرئيس منتخب أعاد إحياء رغبته بعزم أكبر في إلغاء هذا الحق التلقائي، وقال في مقابلة تلفزيونية مع شبكة "أن بي سي" إنه سيتعين على إدارته إنهاء ذلك، مشيراً إلى أنه كان سيفعل هذا الأمر عبر سلطات الرئيس التنفيذية خلال ولايته الأولى، لكن كان عليه أولاً معالجة وباء كورونا في ذلك الوقت.
وما يشير إلى أن ترمب سيعيد تعريف حق المواطنة بالولادة، أن موقع حملته على الإنترنت يذكر أنه لكي يصبح الطفل مؤهلاً للحصول على الجنسية الأميركية بعد صدور أمره التنفيذي المتوقع في اليوم الأول من حكمه في الـ20 من يناير (كانون الثاني) 2025 أو الأيام التالية، يجب أن يتمتع أحد والديه بالمواطنة الأميركية أو أن يكون مقيماً دائماً بشكل قانوني في البلاد أو عضواً في الجيش الأميركي، وحينئذ يمكن للرئيس ترمب توجيه الوزارات والوكالات الفيدرالية الأميركية بحجب جوازات السفر أو المستندات والفوائد الأخرى ما لم يستوفِ الشخص الشرط الجديد.
ومنذ فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، يقيّم فريقه خيارات عدة للوفاء بتعهده الذي وعد به منذ فترة طويلة بإنهاء حق المواطنة بالولادة، كما كان حلفاؤه يصممون إستراتيجيات محددة، بما في ذلك توجيه وزارة الخارجية بعدم إصدار جوازات سفر للأطفال الذين لديهم آباء من المهاجرين غير الشرعيين، فضلاً عن تشديد متطلبات تأشيرات السياحة للقضاء على ما يسمى "سياحة الولادة".
ما تفسير معارضي حق المواطنة بالولادة؟
ومع إدراك فريق الرئيس ترمب المعارك القانونية التي تنتظرهم فور صدور هذا الأمر التنفيذي الرئاسي، وتوقعهم أن تضطر المحكمة العليا الأميركية في واشنطن إلى الحكم في هذه المسألة بنهاية المطاف، تُطرح خيارات عدة بين حلفاء ترمب لتشديد التفسير، إذ يزعم هؤلاء أن التعديل الـ14 من الدستور الأميركي، فُسره بصورة خاطئة ولا ينطبق على الأطفال المولودين في الولايات المتحدة لآباء من غير المقيمين بطريقة شرعية، على اعتبار أن أبناء المهاجرين غير الشرعيين ليسوا خاضعين للولاية القانونية للولايات المتحدة ولا ينبغي اعتبارهم مواطنين بموجب الدستور.
ويعتقد الخبراء القانونيون المؤيدون سياسة ترمب أنه إذا أراد المشرعون أن يكون جميع الأشخاص المولودين في البلاد مواطنين أميركيين، لما أضافوا إلى التعديل الـ14 النص المحدد بأنه يتطلب خضوعهم للولاية القضائية للولايات المتحدة، ويقولون إن هذه اللغة تستبعد الأشخاص الذين دخلوا البلاد بشكل غير قانوني ومن ثم أطفالهم المولودين في الولايات المتحدة، وهو ما يتسق مع مشروع قانون اقترحه هذا العام عضوا مجلس الشيوخ الجمهوريان السيناتور ليندسي غراهام والسيناتور توم كوتون من أركنساس، الذي يحدد الأطفال المولودين في الولايات المتحدة على أنهم ليسوا خاضعين للولاية القانونية للولايات المتحدة إذا كان آباؤهم في البلاد بشكل غير قانوني.
دوافع قديمة
لا يمكن الفصل بين توجه الرئيس ترمب وغالبية المحافظين والجمهوريين في تقييد سياسات الهجرة عن مسألة إنهاء المواطنة بالولادة، إذ تبدو جزءاً لا يتجزأ منها في ظل تيار مناهض للمهاجرين يتصاعد منذ أعوام واستخدمه ترمب جزئياً للفوز بالانتخابات، ويعززه في ذلك وجود ما يقدر بنحو 11 مليون مهاجر في الولايات المتحدة بشكل غير قانوني في يناير عام 2022، وفقاً لتقديرات وزارة الأمن الداخلي الأميركية، وهو رقم يقدره بعض المحللين الآن بنحو 13 إلى 14 مليوناً.
ويستخدم المتشددون المناهضون للهجرة وغيرهم من منتقدي حق المواطنة بالولادة، بعض المصطلحات مثل "سياحة الولادة" و"الهجرة المتسلسلة" و"أطفال المرساة"، إذ تدخل كل عام آلاف النساء الحوامل من بلدان أخرى الولايات المتحدة بتأشيرة صالحة، ويلدن أطفالاً يحصلون تلقائياً على الجنسية الأميركية ثم يأخذون الأطفال إلى أوطانهم أو إلى دولة ثالثة، ولم يتمكن الساسة من وقف "سياحة الولادة" لأنها تتم بشكل قانوني ما دامت الأم حصلت على تأشيرتها بصورة رسمية وامتثلت لشروطها.
ومع ذلك، يميل ترمب وأنصاره إلى الحديث عن الأمهات الحوامل اللواتي يدخلن البلاد بصورة غير قانونية لإنجاب ما يطلقون عليه بسخرية "أطفال المرساة"، كونهم يرسون لأسرهم موطئ قدم نحو الإقامة القانونية بأميركا في ما بعد، فضلاً عن حصولهم على منافع عامة أخرى كثيرة.
وتشير تقديرات معهد سياسة الهجرة إلى أنه اعتباراً من عام 2019، كان نحو 4.7 مليون طفل أميركي مولود تحت سن 18 سنة يعيشون مع أحد والديهم غير الشرعيين، وهو ما يشكل نحو سبعة في المئة من جميع الأطفال في الولايات المتحدة، لكن مركز "بيو" للأبحاث قدر في عام 2022 أن ما يقارب خمسة من كل ستة أطفال أميركيين من المهاجرين غير الشرعيين ولدوا بعد عامين أو أكثر من دخول والديهم إلى الولايات المتحدة.
وسواء نشأ هؤلاء الأطفال في الولايات المتحدة أو في الخارج، بمجرد أن يبلغ الأطفال الأميركيون من آباء غير مواطنين سن 21 سنة، يمكنهم رعاية أفراد الأسرة للحصول على الإقامة الدائمة القانونية، تماماً كأي مواطن أميركي آخر، وهي ممارسة سخر منها المنتقدون باعتبارها "هجرة متسلسلة".
الحق الدستوري في المواطنة بالولادة
يعتبر أي شخص يولد في الولايات المتحدة مواطناً عند الولادة، وهو ما ينبع من بند المواطنة في التعديل الـ14، الذي أضيف إلى الدستور عام 1868، وينص التعديل على "جميع الأشخاص المولودين أو المجنسين في الولايات المتحدة، والخاضعين لولايتها القضائية، هم مواطنون للولايات المتحدة، ولا يجوز لأية ولاية أن تضع أو تنفذ أي قانون من شأنه أن يحد من امتيازات أو حصانات مواطني الولايات المتحدة، ولا يجوز لأية ولاية أن تحرم أي شخص من الحياة أو الحرية أو الممتلكات، من دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة، ولا أن تحرم أي شخص ضمن ولايتها القضائية من الحماية المتساوية للقوانين".
استمدت الولايات المتحدة قاعدة حق المواطنة بالولادة من القانون العام الإنجليزي ويرجع تاريخها إلى قرون مضت، ومع ذلك رُفضت هذه القاعدة لفترة وجيزة بسبب قضية "دريد سكوت ضد ساندفورد" عندما رفضت المحكمة العليا منح الجنسية لأحفاد ما كان يطلق عليهم "العبيد"، لكن صُححت محاولة حرمان الأميركيين المولودين بشكل طبيعي من حقوقهم من خلال التعديل الـ14، الذي صان حق المواطنة بالولادة منذ ذلك الحين، كما يحدد قانون الهجرة والجنسية لعام 1952 المواطنين ويتضمن لغة مماثلة.
ما تفسير مؤيدي حق المواطنة بالولادة؟
ترى الشريحة الأوسع من فقهاء القانون من كل الأطياف السياسية أنه سواء كان والدا الطفل المولود في الولايات المتحدة مواطنين أميركيين أم لا، فإن هذا لا يؤثر في كون هذا الطفل مواطناً أم لا لأنهم يخضعون للقوانين الأميركية، باستثناء أبناء الدبلوماسيين الأجانب المولودين في الولايات المتحدة على اعتبار أنهم لا يخضعون للولاية القضائية للولايات المتحدة.
ويستعد عدد من المدعين العامين ومنظمات المجتمع المدني الحقوقية للتصدي لأي أمر تنفيذي من ترمب في هذا الشأن ومقاضاته في المحكمة إذا كانت هناك محاولة لترحيل المواطنين الأميركيين.
وبحسب نائب مدير مشروع حقوق المهاجرين في اتحاد الحريات المدنية الأميركية كودي ووفي، فإن النص الدستوري واضح والسوابق التاريخية واضحة، وأنه على ثقة من أن الدستور الذي يمنع الرئيس أو الكونغرس من إلغاء حق المواطنة بالولادة سيسود، ويستمر الاعتراف بالأشخاص الذين ولدوا في الولايات المتحدة كمواطنين أميركيين.
ويرى مدير القانون والسياسة العامة في جامعة نورث إيسترن، دان أورمان، أنه عندما يُدون حق في الدستور، أو يضاف تعديل دستوري، فإن الطريقة الوحيدة للتراجع عنه هي جعل المحكمة العليا تصدر قراءة جديدة للقانون، وهو ما يقول إنه غير مرجح، حتى مع هذه المحكمة المحافظة. أما الطريقة الأخرى فهي تعديل الدستور، لكنه أمر نادر جداً وصعب جداً، إذ يتطلب تعديل الدستور غالبية ساحقة من الدعم تتمثل في ثلثي غرفتي الكونغرس، ثم التصديق من قبل ثلاثة أرباع المجالس التشريعية للولايات الأميركية الـ50 وهي مهمة شاقة لأي تحالف سياسي في أي وقت.
وفي حين يشير استطلاع سابق أجرته مجلة "إيكونوميست" مع مؤسسة "يوغوف"، إلى أن غالبية الأميركيين (60 في المئة) يؤيدون حق المواطنة بالولادة، فإن تعديل الدستور لن يحدث غالباً لأنه يتطلب إجماعاً بغالبية ساحقة على قضية ما.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ماذا قالت المحكمة العليا؟
لم تتطرق المحكمة العليا إلى ما إذا كان بند المواطنة ينطبق على الأطفال المولودين في الولايات المتحدة لأشخاص موجودين في الولايات المتحدة بشكل غير قانوني، ومع ذلك فإن هناك قرارات سابقة من المحكمة العليا، إذ تعود قضية المواطنة بالولادة إلى عام 1898، عندما قضت المحكمة العليا بأن أحد أبناء المهاجرين الشرعيين من الصين كان مواطناً أميركياً بحكم ولادته عام 1873 في سان فرانسيسكو.
وعلى رغم أن المحكمة العليا حكمت في عام 1884 في نزاع حول تسجيل الناخبين بأن جون إلك المولود في الولايات المتحدة ليس مواطناً لأنه ولد كعضو في قبيلة أميركية أصلية ومن ثم لا يخضع للولاية القانونية للولايات المتحدة، فإن الكونغرس جعل الجنسية الأميركية تشمل الأميركيين الأصليين عام 1924.
وبينما يتخوف بعض المراقبين من أن الحكمة العليا أظهرت استعدادها لإلغاء السوابق الطويلة الأمد في قضايا أخرى، مثل حقوق الإجهاض أو السلطة التنظيمية، فلا يزال غالبية الخبراء القانونيين واثقين بأن حق المواطنة بالولادة سيبقى حتى مع وجود محكمة عليا تميل إلى اليمين، إذ يرى الباحث في الهجرة والمواطنة في جامعة كاليفورنيا هيروشي موتومورا، أن إلغاء المحكمة العليا حكم المواطنة بالولادة لعام 1898 سيكون مختلفاً تماماً وأكثر تطرفاً من الطريقة التي ألغت بها الغالبية المحافظة سوابق أخرى مثل قضية حق الإجهاض المعروفة باسم "رو ضد وايد".
معركة حتمية
من المنتظر أن تكون المعركة القانونية حول محاولة إلغاء المواطنة بالولادة حتمية، ولكن إقناع المحكمة العليا بقبول مثل هذا التحدي ليس مضموناً، وستكون المحكمة العليا أقل ميلاً للقيام بذلك إذا لم يكن هناك خلاف بين الدوائر القانونية حول معنى المواطنة بالولادة، ولكن إذا أحالت إدارة ترمب النزاع على جدول أعمال الطوارئ في المحكمة، وطلبت من المحكمة العليا إيقاف أمر محكمة فيدرالية أدنى بمنع هذه السياسة، فسيتعين على القضاة اتخاذ نوع من الإجراءات، وإذا أجرت المحكمة العليا مراجعة كاملة للقضية، فقد تتجنب أيضاً الأسئلة الدستورية المركزية وقد تصدر حكماً بناءً على القانون، على رغم أن أستاذ القانون في جامعة جورج تاون ستيف فلاديك يستبعد هذا الاحتمال لأنه سيكون بمثابة هرب إذا أرادوا تجنب القضية الدستورية.
ومع ذلك، فإن فكرة أن المحكمة العليا قد تجد في مرحلة ما أن الحجج لتقييد حق المواطنة بالولادة مقنعة، لم تعد مثيرة للسخرية، كما تقول أستاذة قانون الهجرة والمواطنة في جامعة فيرجينيا، أماندا فروست، نظراً إلى أن تقييد حق المواطنة بالولادة كان موقفاً يجمع عليه كل المرشحين الرئاسيين الجمهوريين في انتخابات عام 2024، وأشار قاضٍ فيدرالي واحد في الأقل إلى استعداده للنظر في الأمر، مشيرة إلى أن الواقع على الأرض تغير.