تتقصى الأكاديمية عايدة الجوهري في كتابها الصادر حديثاً عن مركز دراسات الوحدة العربية عن صورة شهرزاد في حكايات "ألف ليلة وليلة"، وتكشف مزيداً عن تلك الشخصية التي غدت أسطورة في تاريخ الآداب العربية، وما برح المجتمع الغربي بعامة والعربي بخاصة يحملها كثيراً من السمات التي ليست منها، أو التي يُسقطها عليها بغض النظر عن العصر والبيئة الأصليين اللذين صدرت عنهما الحكايات. فمن هذه السمات أو الانطباعات المسقطة على شهرزاد المحسوبة على أنها أيقونة (مثال) المرأة العربية بل الشرقية، خضوعها المطلق لإرادة الرجل المتمثل بشهريار، وامتثالها التام لنزواته الجنسية مع قدر طفيف من الذكاء والحضور.
ولما كان الكتاب الذي أعدته الكاتبة عايدة الجوهري بحثاً قائماً على المنهج العلمي الموضوعي، فقد ارتأت أن تتصور الإشكالية التي سوف تعالجها في متن الكتاب، وهي الاعتقاد السائد بأن شهرزاد بطلة "ألف ليلة وليلة" كانت قد وقعت في فخ الأنماط الذكورية وارتداداتها، وأنها ذكر مموه بلباس امرأة، وتم اتهامها بالتواطؤ ضد النساء والتآمر عليهن، وأنها تستسهل تسخيف النساء وتصويرهن ضعيفات العقل وناقصات الرأي.
منهج تحليلي
وفيما اعتمدت الباحثة المنهج التحليلي الملائم لهذا النوع من الدراسات الذي يدرس نصوصاً بعينها، وهنا النص التراثي "ألف ليلة وليلة" من أجل أن تستجلي صورة شهرزاد السالفة، فقد أمكنها تصنيف المعطيات الكثيرة وتأويلها بفضل المقاربة السيميائية الحديثة، لا سيما ما توفره لها معايير كل من الناقدين الفرنسيين غريماس وبريمون الواصفة، والوظائف السردية المكتشفة عند كل من الناقد فلاديمير بروب وغريماس، يرفدها في ذلك علم الاجتماع وما يتيح لها كشفه من النماذج ذات الصلة بالتصنيف الجندري وصورة البطل أو البطلة وصلاته بمن يمثلهم، وأعني هنا شهرزاد وما تمثله بالنسبة إلى المرأة الشرقية بعامة والعربية بخاصة.
ولكن قبل أن تمضي الباحثة الجوهري في قراءة الأثر التراثي وتصنيفه ومن ثم تأويله، تجري بحثاً مفصلاً عن أصل "ألف ليلة وليلة" العربية، فيتبين لها أن الأصل هندي وأن فكرة الكتاب مستقاة من كتاب هندي عنوانه "شوكاسابتاتي"، وأن الكتاب ظهر أواسط القرن الثامن وظل التداول به في المجتمع العباسي حتى القرن التاسع ميلادي (750-848). وينطوي الكتاب الهندي على 70 حكاية، يرويها الببغاء العاقل للمرأة قمر السكر بغية ثنيها عن خيانة زوجها ساعد الذي مضى في رحلة طويلة خارج البلاد، وأوكل إلى الببغاء مراقبة زوجته وتتبع أخباره، ومنعها من مواصلة عشيقها الأمير الشاب. ولئن كانت حكايات الببغاء قد ألهت قمر السكر عن عشيقها الأمير، فإنها لم تنجح في الحؤول من دون مواصلته. المهم في الأمر أن العباسيين على ما تقول الكاتبة الجوهري بعد أن كانوا نقلوا عن الفارسية كتاب "هزار أفسانة" أي ألف حكاية، وعربوا كتاب "شوكا سابتاتي"، أنِسوا إلى الحكايات المنقولة ومضامينها الأخلاقية وتلك الماجنة، وعمدوا إلى محاكاة النوعين السالفين، فاعتمدوا نموذج القصص الهندي - الفارسي الذي يقوم على حكاية -أم أو حكاية - إطار كما اصطلحت على تسميتها الكاتبة، وتتفرع عنها حكايات تكملها أو تكون مستقلة عنها.
ظاهرة التناص
ويُستخلص من الحكايات في شوكا سابتاتي أن الوظيفة الإلهائية كانت هي الغالبة على الوظيفة الوعظية التربوية والفكرية، كما أن مناخاً من الارتياب حيال المرأة سيطر على ما عداه في هذه الحكايات الـ 70، إذ بدت المرأة فيها كائناً آثماً على نحو جوهري، وقد لزم قمعه وتقييده بكل الشروط والموانع الضرورية، بحسب تحليل الكاتبة عايدة الجوهري واستنتاجها.
أما المقارنة التي تكفلت بها الباحثة بين ما بدا لكثير من الباحثين قبل الجوهري أنه أصل لحكايات "ألف ليلة وليلة" الهندي والمنقول إلى اللغة التركية ومن ثم العربية، وبين نص "ألف ليلة وليلة" العربي، فمن قبيل الإقرار بوجود ظاهرة التناص (أي ظهور عناصر تشابه بين نص قديم ونص جديد بما يشير إلى تأثر ومحاكاة) المؤكدة أولاً، ومن ثم من أجل التثبت من أن "شهرزاد غير مطابقة للنموذج الجندري الأنثوي التقليدي بحسب الفرضية الأساسية التي أطلقتها الباحثة الجوهري.
على أن المهم في ما توصلت إليه المقارنة أن تغييراً حصل في بنية النص العربي، إذ حلت شهرزاد محل الببغاء وحل شهريار بديلاً عن قمر السكر، بحيث تعاكست الأدوار جنسياً، ولكن الأهم من ذلك أن شهرزاد باتت هي الآخذة بزمام السرد والحكي، تستخدمهما لرد خطر الموت عنها وعن بنات جنسها، ولمحاولة تعديل توجه شهريار من شخص كاره للنساء كلهن بسبب خيانة امرأته الأولى له مع زنجي، إلى رجل حليف لها وحضاري ومتشوق إلى سماع السرد ومتفاعل معه.
ولدى تتبع الباحثة حكايات "ألف ليلة وليلة"، المتكاملة مع الحكاية - الإطار أو الحكايات الفرعية على حد سواء، تبين لها أن بعضاً من هذه الأخيرة مطابق للترسيمات والمنمطات والتمثلات الجندرية التقليدية، في حين أن غالبيتها غير مطابقة لها، وتنسجم مع استراتيجية شهرزاد التي اعتمدتها في مسيرتها الإنقاذية، عنيتُ بها خيار التفاوض الإغوائي لا الإلغائي لتدجين غريمها وتحويله إلى حليف.
وظائف السرد
ولما كان السرد في قلب عملية التفاوض عمدت الباحثة إلى إبراز وظائفه في الثقافة العربية، وصولاً إلى رصد دوره ووظائفه في كل الحكايات الفرعية والحكاية - الإطار، وقد أعانت الباحثة على تصنيفها معايير مستمدة من السيميائية ومن العلوم الاجتماعية الحديثة، لا سيما تلك المتصلة بدرس الجندر وأنواع العلاقات بين الرجل والمرأة، أعني زواج الحرة والإماء والشروط الموضوعة على كل منهما لمصلحة الإماء.
وفي سياق التحليل بينت الكاتبة الجوهري خصوصية السرد الشهرزادي وأفانينه وأحابيله التي تمثل بحد ذاتها قيمة تقنية فنية وإبداعية عالية، علاوة على قيمتها العلاجية والتربوية، وبالتالي لم يكن من المستغرب للكاتبة أن تنال حكايات شهرزاد منذ ترجمتها إلى الفرنسية على يد الفرنسي أنطوان غالان (1646-1715) أوائل القرن الـ 18 (1704)، شهرة واسعة في العالم الغربي، وأن تستلهم في كثير من الأعمال الأدبية شعراً ونثراً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على أن الجانب اللافت في الدراسة هو صورة شهرزاد النموذجية الإيجابية التي استخلصتها الكاتبة من غالبية الحكايات الفرعية ومن الحكاية -الإطار، فهي بحسب الجوهري تعد نموذجاً نسويا عابراً للزمن ويرمز إلى أن من شأن وعي المرأة ذاتها وواقعها وملكاتها وإمكاناتها وإدراك مسؤوليتها الذاتية والاجتماعية وتحررها من الخوف وانتقالها إلى الفعل ومواجهتها السلطة الأبوية بأدوات معرفية ناجعة، من شأن ذلك كله أن يعدل من علاقات القوة لمصلحتها، وهي تفترض بموضوعية وحذاقة وتبصر أن اعتماد المرأة على قوة ذكائها ومعرفتها وكفاءاتها قد يكون كفيلاً بحمل الرجل على مراجعة ذاته وتصويب تمثلاته، والتخلص من أفكاره المسبقة عنها، تلك المترسبة في قاع لاوعيه، وبالتالي تصير قادرة على أداء دور جديد تكون فيه فاعلة ومخاطبة وواهبة وآخذة، بدل أن تظل في موقع التلقي والاستماع والانفعال والاتكال على الآخرين.
لقد أجبرت شهرزاد، بحسب الكاتبة الجوهري، شهريار على كبح شهواته المدمرة وحثته على الاعتراف بخطئه، وحفزته على الإنصات إلى حكاياتها والتحاور معها وإعادة النظر في ذاتيته، واخترقت القوانين التي وضعها أبناء جنسه والقاضية بتحويل المرأة إلى موضوع بخس وتشييئها واستسهال التخلص منها.
وبهذه المواصفات المستخلصة من مواقف شهرزاد ومن عبر الحكايات التي روتها لشهريار، باتت تمثل الأولى نموذجاً نسوياً لا تصطنعه الخطابات ولا البيانات والإعلانات، ولا تمثله النداءات والحركات الاعتراضية، وإنما يستحضرهُ عن جدارة وعي المرأة بذاتها، وشعورها بالمسؤولية عن تاريخها اليومي ومصيرها، في مقابل توفير المجتمع لها أدوات المعرفة والتأهيل لتيسير انخراطها في الثقافة الاجتماعية وانتقالها إلى حيز العمل الخلاق.
للكاتبة عايدة الجوهري العديد من الأعمال المنشورة مثل "رمزية الحجاب: مفاهيم ودلالات" و"القاضي والنقاب" و"سيرة سعيد زين الدين" و"اليسار: الماهية والدور".