شكل اليهود جزءاً من التراث العربي، ومع امتداد الحضارة الإسلامية وازدهارها عاش اليهود كجماعة دينية صغيرة في أحياء خاصة بهم داخل الحواضر العربية، واشتغلوا في التجارة والطب وصناعة الذهب والفضة. واشتهرت في العصر الحديث شخصيات كثيرة من أصول يهودية مثل الفنانة ليلى مراد وشقيقها منير مراد، بعضهم فضل البقاء في العالم العربي، ومنهم من آثر الهجرة عقب إنشاء إسرائيل، مثل الفنانة رقية إبراهيم واحدة أشهر الوجوه في بدايات السينما المصرية.
وإذا كانت إسرائيل احتكرت التأريخ لنفسها، ولـ"يهود" العالم العربي، فإن هذا لا يمنع وجود سرديات ليهود حملوا جنسيات عربية، مخالفة للسردية الإسرائيلية، ومتعايشة مع جذورها العربية.
الكاتب الأكاديمي أحمد زكريا آثر أن يأخذ خطوة أبعد، باستعادة الفلكلور اليهودي في مصر، في قالب تخييلي. بعيداً عن الاستقصاء التاريخي الفاتر.
أصدر زكريا حديثاً عن دار روافد في القاهرة، سلسلة أدبية مستوحاة من هذا التراث، من بينها كتابه "باروخ وأشفور وأدمون". جاء الكتاب في أسلوب أدبي مبسط برع فيه كتاب مثل نبيل فاروق وأحمد خالد توفيق. وانقسم النص إلى جزأين يكمل أحدهما الآخر؛ الأول هو المتن الخاص بالحكاية الشعبية المُصوغة بحس أدبي، والآخر هو الهامش المطول أحياناً، والمكتوب بلغة تاريخية لإثراء الجانب المعرفي للقارئ بالثقافة اليهودية وتقاطعها مع الثقافة العربية والإسلامية آنذاك.
دوافع الكتابة
يوضح الكاتب في مقدمته أنه كتب النص بين عامي 2017 و2020، ويتضمن حكايات شعبية تستند إلى بعض الأحداث والوقائع التاريخية، وهي تقدم في مجملها "للقارئ العربي فرصة جيدة للتعرف على مجتمع يهود مصر القرائين دون التعمق في السرديات التاريخية والكتب والمراجع العلمية". وأشار زكريا إلى أن دافعه الوحيد كان "إيجاد قالب يمكن تقديم المعرفة التاريخية من خلاله بشكل بعيد عن جمود المحاضرات والكتب النظرية".
انشغل الكاتب وهو في الأساس متخصص في الهندسة والعمارة، بالدراسات التاريخية والاجتماعية لهذه الطائفة، في توجه قاصر تقريباً، على نخبة أكاديمية.
وهو ما يطرح أسئلة عدة، هل مثل هذا التوجه سيؤدي إلى فهم أفضل للآخر، حتى لو كان البعض يعتبره "عدواً"؟ هل يختلف تراث اليهود الذين عاشوا في عالمنا العربي عمن سواهم؟ أليس هذا "التاريخ" لتلك الطائفة هو جزء من تاريخنا العربي في نهاية المطاف؟
لعل الميزة الأهم أن الكاتب المصري حاول تقديم (وتبني) السردية اليهودية وليس العربية، وكأنه يقدم معالجة من داخل تلك الثقافة، وليست رؤية خارجية متعالية عليها.
ثلاثة أشقاء
ولد الأشقاء الثلاثة لأب فقير يدعى "عبوديا" وهي كلمة عبرية تعني "عبدالله"، أصلها العبري "عفوديا". الولد الأكبر "باروخ" أي "المبارك"، والثاني "أشفور" ويعني الفقير المحتاج، وما تزال هذه الكلمة مستعملة إلى اليوم في العامية المصرية في إشارة للزبون الفقير، فيقال "فلان مقشفر" والحالة "قشفرت". أما الثالث فهو "أدمون" ومعناه الأصيل أو المعدن النقي.
نجح الأب على الرغم من فقره في ادخار ثلاثة دنانير ذهبية، وعندما سمع عن طبيب يُعلم الطب مقابل هذا المبلغ، اتفق مع زوجته على إرسال ابنهما الأكبر والأذكى "باروخ" لتعلم مهنة الطب بهذه الدنانير، شريطة أن يساعد أخويه بعدما ينجح.
مات الأب وانقطعت أخبار "باروخ"، وأصبح أخواه عاملين في الصاغة، وبسبب نار صياغة الفضة فقد "أشفور" بصره، واحترقت يد "أدمون"، وعاشا أقرب إلى المتسولين، وعندما علما أن أخاهما "باروخ" أصبح طبيباً للخليفة، ذهبا إليه في قصره، فالتقت بهما زوجته ومنحت كل منهما ديناراً ذهبياً باعتبار أنه مدين لهما بهذا المبلغ الذي تعلم به. علم رجال الدين المسؤولون عن طائفة القرائين بالقصة، فعاتبوا الأخوين على قبول الدينارين، وأبلغوهما أن من حقهما تقاسم الثروة معه. ثم تعقدت الحبكة مع عرض القضية على الخليفة "الحاكم بأمر الله" بحضور ممثلي "القرائين" و"الربانيين" و"السامرة"، ليكون ذلك الحضور مدخلاً لمسرد تعريفي بأبرز الطوائف اليهودية في مصر والفروق الدينية والطبقية بينها.
بعيداً عن حرق أحداث القصة التي تكشف ملامح المجتمع اليهودي وطبقاته في عصر الدولة الفاطمية، يُلاحظ أن المؤلف قدم أيضاً رسومات فنية وهندسية توضح طبيعة هذا المجتمع، على مستوى الأزياء والطقوس، في مشاهد درامية وتعبيرية إضافة إلى رسم "بورتريهات" لأبرز الشخصيات. وهذا من أهم الملامح الجمالية لهذه التجربة.
ابن صانع الفخار
بعدما انتهى المؤلف من سرد قصته الأساسية التي حملت عنوان الكتاب، في حوالى 115 صفحة، عرج على قصص شعبية مختصرة جداً منها قصة "ابن صانع الفخار في سوق الذهب والفضة"، وهي أيضاً تدور في حي اليهود الذي كان جزءاً من مجتمع وعمارة مصر القديمة، وهي في الأساس عبارة عن "فسطاط" عمرو بن العاص أول حاكم عربي لمصر، ثم امتدت مع ما شيده الفاطميون من قصور ومساجد منها الجامع الأزهر.
أما القصة الثالثة فحملت عنوان "الشيخ هارون وابنه الحكيم موشى"، وتُروى قصة الأخت العاقر التي غارت من طفل زوجة أخيها فوضعته في نار الفرن، وعندما تزوجتْ وأنجبت خمسة أطفال، كانت شديدة الخوف عليهم وتحبسهم في الدار عندما تخرج، إلى أن اندلع حريق أتى على البيت والأولاد فأصيبت بلوثة جنون وراحت تهذي: "يا رب إني نسيتُ، وهي نسيتْ (أي زوجة أخيها) يا رب أتساوي الواحد بالخمسة؟ الديان لا يموت".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
القصة الرابعة والأخيرة "الشيخ هارون وابنه الحكيم بنيامين" هي أقرب إلى استلهام مباشر لروح "ألف ليلة وليلة" وتروي قصة "بنيامين" الصغير شقيق "موشى" الذي عانى الفقر والوحدة، وبينما هو عائد إلى الحارة ليلاً رأى القطط تعارك قطة غريبة سوداء فأنقذها، وعندما توجه للاطمئنان عليها، وجدها تحولت إلى امرأة جميلة شكرته على إنقاذها، وأخبرته أنها ابنة ملك الجان، ثم أهدته مصباحاً، لم يدرك بالضبط ما هي قيمته، شرط ألا يخبر أحداً بسره، وبالفعل يغير هذا المصباح (يذكرنا بمصباح علاء الدين) حياته تغييراً جذرياً إلى أن تستدرجه خطيبته لتعرف سر ثرائه ومعارفه العظيمة بعدما كان فقيراً معدماً.
الملاحظ في القصص عموماً أنها أقرب إلى بنية الليالي، وهي قصيرة نوعاً ماـ باستثناء الامتداد السردي والوصفي الذي عالج به المؤلف القصة الأولى فقط، ولا تخلو من أمثولة وعظة أخلاقية، وقدر لا بأس به من التخييل والمفارقة الدرامية.
ونخلص من ذلك إلى أن تأثير "ألف ليلة وليلة" كان عظيماً وعميقاً في مختلف الطوائف والجماعات الدينية والعرقية التي عاشت في ظل الحضارة العربية والإسلامية.
هذه السلسلة التي يعدها أحمد زكريا، تقدم للشباب والناشئة، المعرفة التاريخية والاجتماعية، بأسلوب أدبي سلس. تعرفنا بطائفة مهمة كانت جزءاً من المجتمعات العربية، وإن تمتعت بخصوصيته الشديدة، لكنها تأثرت ـ كما هو واضح ـ بالثقافة العربية والإسلامية.