أعلنت فرنسا خفض عدد قواتها في منطقة الساحل بقصد إعادة تنظيم صفوفها، تفعيلاً لقرار الرئيس إيمانويل ماكرون الذي كان قد أعلنه في يونيو (حزيران) الماضي، على إثر سلسلة هجمات نفذتها الجماعات المسلحة بالمنطقة، قتل على إثرها بعض الجنود الفرنسيين.
ويعود التدخل الفرنسي في منطقة الساحل إلى عام 2013، وعلى الرغم من أن الهدف منه كان القضاء على الخطر الإرهابي، فإن المنطقة عرفت منذ ذلك الحين تنامياً للجماعات المسلحة، فبعد أن وجدت تلك الجماعات في الشمال المالي فقط خلال عام 2012 على إثر تمرد الطوارق، انتشرت بعد التدخل الفرنسي، إلى وسط البلاد، والنيجر، وبوركينا فاسو، وتسببت في مقتل أكثر من 7000 شخص خلال عام 2020 فقط.
تفاصيل خفض القوات
وصرح الجنرال لوران ميشون، قائد عملية "برخان" الفرنسية لمكافحة المتشددين في منطقة الساحل، لوكالة الصحافة الفرنسية، بأن بلاده تتجه لخفض عدد جنودها في منطقة الساحل إلى ثلاثة آلاف بعدما وصلت لخمسة آلاف، في إطار إعادة تنظيم انتشارها العسكري، مشيراً إلى أن الأمر يتعلق بـ"استكمال المرحلة الأولى، أي الانسحاب من أقصى شمال مالي (تمبكتو، وكيدال، وتيساليت)، بالتعاون مع سلطات مالي وبعثة الأمم المتحدة في البلاد مينوسما، وأصدقائنا الأوروبيين المشاركين في قوة تاكوبا".
وتنطلق المرحلة الثانية بعد حوالى ستة أشهر، وتشمل إعادة هيكلة كل من القيادة والقوات، وعن تفاصيل تخفيض عدد القوات أوضح الجنرال الفرنسي أنه بحلول صيف عام 2022 سيصبح عددها ثلاثة آلاف جندي، وسيكون هناك عدد أقل بكثير من القوات التقليدية، ومزيد من القوات الخاصة المكلفة مهام الشراكة القتالية التي تعمل ضمن قوة "تاكوبا" الأوروبية.
تحصيل حاصل
ويشير محللون إلى أن القرار الفرنسي لا يعني سقوطها في مستنقع الساحل، لكنها أجبرت على ذلك باعتبار أنها تعمل تقريباً وحدها في مكافحة خطر الساحل الإرهابي، ويوضح الباحث في الشؤون الأمنية والأفريقية، عبد الواحد أولاد ملود، أن إعلان فرنسا سحب قواتها من شمال مالي هو تحصيل حاصل بالنظر لمجموعة من الاعتبارات، وقال إن القرار لا يعني إقراراً فرنسياً بالفشل في تدبير أزمة دول الساحل جنوب الصحراء، بخاصة أزمة مالي، ولكن تجب الإشارة إلى كون فرنسا وجدت نفسها وحدها تارة، وحصلت على مساندة الاتحاد الأوروبي تارة أخرى، لكن بشكل "محتشم"، ما جعل باريس تتخذ مبادرات بمراجعة قراراتها على مستوى نهج المقاربة العسكرية في منطقة الساحل جنوب الصحراء، مضيفاً أن مسألة المقاربة التنموية التي نهجتها في المنطقة لم تبلغ المستوى المطلوب، ولوحظ في مجموعة من المؤتمرات حول دول الساحل الخمس "G5" برئاسة فرنسا أن الرئيس ماكرون ما فتئ يحاول استقطاب القوات الأوروبية بهدف خلق نوع من التنسيق والتعاون لمحاربة التطرف والإرهاب والجماعات الراديكالية في الساحل والصحراء.
تنامي الخطر الإرهابي
وكانت نتيجة التدخل العسكري الفرنسي في منطقة الساحل عكسية، إذ زاد خطر الجماعات المسلحة، وتضاعف حجم مجالها الجغرافي، ويقول الخبير في المجالين الأمني والاستراتيجي، محمد الطيار، "أعلنت فرنسا، خلال السنة الجارية، تقليص وجودها العسكري ونهاية مهمة قوة برخان بالساحل الأفريقي، هذه القوة التي برهنت، طيلة ما يقرب ثماني سنوات، أن مهمتها لم تكن سهلة بالشكل الذي كانت تتصوره باريس"، مشيراً إلى بزوغ التهديد الإرهابي من جديد وبقوة أكبر في المنطقة، وأصبحت الهجمات أكثر فتكاً ودقة، ونهجت أسلوب العصابات، واستعملت الأجهزة المتفجرة اليدوية الصنع، وأشكال الحرب غير النظامية الأخرى، وتوسع نشاط الجريمة المنظمة، وتضاعف عدد الهجمات التي أعلنت الجماعات المتطرفة العنيفة مسؤوليتها عنها، وأصبحت مقرات وعناصر بعثة الأمم المتحدة أكثر انكشافاً، واتسعت بذلك رقعة المعضلة الأمنية القائمة، كما وسعت الجماعات المتطرفة نطاقها الجغرافي، حيث تمدد نشاطها ليشمل بشكل أكثر حدة كلاً من النيجر، وبوركينا فاسو، فضلاً عن شمال ووسط مالي.
فشل في المهمة
وتشير الدلائل إلى فشل فرنسا في الحد من تنامي قوة الجماعات المسلحة بمنطقة الساحل، بعد ثماني سنوات من تدخلها هناك، نتيجة نهجها طريقة حربية تقليدية لا تتماشى مع طبيعة المنطقة، ويوضح الخبير، محمد الطيار، أن القوات الفرنسية لم تتمكن في السنوات التي تلت توقيع اتفاق السلام والمصالحة سنة 2015، من النجاح في معركتها ضد الجماعات المسلحة، وتبين مدى فقدانها القدرة على شن الحرب الصحراوية الكلاسيكية، بخلاف عناصر الجماعات المسلحة سواء منها المتطرفة أو غيرها، التي أظهرت خبرة كبيرة وتمرساً في المعارك، مضيفاً، "القوات الحكومية المالية والفرنسية وغيرها من الدول، تميل إلى القيام بعمليات عسكرية أكثر تقليدية، بقوات ذات تنظيم تقليدي غير مؤهلة لهذا النوع من المناورات، وإنشاء مجموعة الدول الخمس، المشكلة من دول الساحل، والإعلان خلال سنة 2020 عن تشكيل كتيبة من القوة الأوروبية أطلق عليه اسم "تاكوبا"، من أجل تخفيف المجهود الحربي على فرنسا ومحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة، لم يجد بعد طريقه إلى التنفيذ الكامل"، موضحاً أن تلك الدول الهشة أصلاً، لم تنفذ بعد ما تم الاتفاق عليه عند إنشاء المجموعة، من تخصيص 5000 جندي من قواتها، إذ إن العدد المشغل أقل من ذلك بكثير، كما أن المجموعة تعاني من اتساع المجال الجغرافي الذي قررت العمل فيه، وتعاني من صعوبة التنسيق، فضلاً عن غياب موارد مالية مهمة ومستمرة التدفق، كما أن قوة "تاكوبا" المشكلة من وحدات تتبع لثماني جنسيات أوروبية، ما زالت جد متواضعة بشكل ملحوظ إذ لا يزيد عددها على 600 فرد، نصفهم من الفرنسيين.
عقوبات
وأعلن الاتحاد الأوروبي، الإثنين الماضي 13 ديسمبر (كانون الأول)، فرض عقوبات على مجموعة "فاغنر" الروسية، وعلى ثمانية أشخاص وثلاث شركات مرتبطين بها، بسبب "أعمال مزعزعة للاستقرار" نفذت في أوكرانيا وفي دول أفريقية عدة. ويأتي القرار الأوروبي بعد تقارير تفيد بتوجه مئات من عناصر المجموعة إلى مالي، بعدما حذرت كل من فرنسا وألمانيا، السلطات المالية من إبرام اتفاق مع قوات "فاغنر" للتعاقد مع 1000 عنصر من المجموعة بقصد المساهمة في دحر الخطر الإرهابي.
وكان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن قد حذر المجموعة الروسية من التدخل في مالي، داعياً إلى ضرورة الانتقال للحكم المدني، ومشيراً إلى أن الولايات المتحدة تسهم في جهود مع البلد الأفريقي والشركاء لدعم الاستقرار فيه.
تصارع المصالح
بعد اكتشاف حقول النفط ومناجم الذهب في وسط أفريقيا، تزداد المخاوف الفرنسية والأميركية من التوغل الروسي في القارة، ما يطرح تساؤلات حول مدى تأثير العقوبات الأوروبية الأخيرة على مصالح موسكو في القارة السمراء، ويشير الباحث أولاد ملود إلى أن الخطوات الفرنسية في منطقة الساحل أتاحت المجال لصراع دولي في المنطقة، ما أدى إلى وجود قوات غير حكومية على غرار قوات "فاغنر" التي سبق لها العمل، على مستوى القارة، في أفريقيا الوسطى، وليبيا، موضحاً أنه، على الرغم من كون السلطات الروسية تتبرأ تارة من تلك المجموعة، فإنها تارة أخرى، تقر بأن حاجة بعض الدول لهذه القوة هي التي تجعلها تتعاقد معها، مضيفاً أن تقارير تؤكد أن "فاغنر" بمثابة "فيروس عسكري" هدفه استنزاف ثروات الدول وجمع الأموال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جانبه، نفى الخبير في المجالين الأمني والاستراتيجي محمد الطيار أن يؤثر القرار الأوروبي على التوغل الروسي في أفريقيا، وفي مالي بشكل خاص، مشيراً إلى أنه سبق أن فرضت وزارة الخزانة الأميركية عام 2017 عقوبات ضد "فاغنر"، ومؤسسها دميترى أوتكين، ولم يؤثر ذلك على توسع نشاطها، موضحاً أن الوجود الروسي في منطقة الساحل الأفريقي، والقارة الأفريقية عموماً، يعرف تمدداً ملحوظاً، وسبق أن أقر المتحدث باسم القوات الأميركية في أفريقيا "أفريكوم"، العقيد كريستوفر كانس، بتوظيف روسيا مقاولين عسكريين خاصين في ما لا يقل عن 16 دولة أفريقية، كتغطية على الدور المباشر لروسيا في تلك الدول.
وأوضح الطيار أنه إضافة إلى ذلك، أبرمت موسكو 19 اتفاقية عسكرية مع دول أفريقية بين عامي 2014 و2019، مشيراً إلى أن القادة العسكريين في مالي لا يخفون علاقتهم الوطيدة بروسيا ودرجة التنسيق معها، ورغبتهم المعلنة في استقدام عناصر "فاغنر" بأعداد مهمة، ما جعل فرنسا، ومن ورائها الدول الغربية، تخاف من فقدان هيمنتها، كما حدث بدولة أفريقيا الوسطى التي استقدمت بدورها عناصر "فاغنر"، ومضيفاً أن الوجود الروسي في مالي ستكون له انعكاسات جد خطيرة بمنطقة الساحل الأفريقي، على الرغم من المساعدة والدعم الذي وعدت به الجزائر روسيا لتسهيل مهمتها في مالي.
وسبق، وفشلت روسيا في تغيير المعادلات لصالح حلفائها في معظم الدول الأفريقية التي تدخلت فيها كموزمبيق والسودان وأفريقيا الوسطى، فضلاً عن عدم تمكنها من التصدي للهجوم المضاد على قوات الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر في ترهونة وغريان وطرابلس، الذي شنته حكومة الوفاق بدعم من تركيا، نظراً لحجمها المحدود، إذ إن عملياتها تقتصر على القيام بمهاجمة خصوم ضعفاء، وتتخذ في معظم الأحيان شكل حرب العصابات، ولا ترقى إلى الدخول في نزاعات عسكرية من الحجم الكبير، غير أنها تبقى إحدى أذرع روسيا المهمة في مزاحمة الدول الغربية في أفريقيا، و"وسيلة من وسائل الحرب التي أصبحت تفرض نفسها كجيل جديد من حروب العصر" كما قال الطيار.