لن نكون مبالغين في تحليلنا إذا قلنا إنه لم يكن هناك تطور إيجابي في السياسة الخارجية التركية في السنوات الأخيرة. كما أن البلاد لم تحرز في الداخل أيضاً تقدماً إيجابياً ملموساً في أي من المجالات، من الاقتصاد إلى السياسة، ومن حقوق الإنسان إلى القضايا الاجتماعية.
وكما هو ملاحظ، فإن البلاد باتت تتخبط في مأزق في الداخل والخارج بسبب سياسات خاطئة وأوهام غير واقعية تهدف إلى تلبية مصالح شخص واحد وشرذمة قليلة أحاطت به من كل جانب.
ومما زاد الوضع توتراً، ذلك الارتباك الذي ينتاب أركان الحزب الحاكم بسبب تدني شعبيتهم المنعكس على استطلاعات الرأي العام في ما يتعلق بالانتخابات الرئاسية المقبلة.
ولكن اللافت للأنظار التوجهات الأخيرة لأنقرة الرامية إلى تحسين الأجواء والعلاقات مع كل من الغرب والشرق.
صحيح أن هذه الخطوات لم تعط ثمارها المرجوة بالنسبة إلى الغرب، إلا أن الرئيس رجب طيب أردوغان يعتقد أنه وجد طريقاً لها. والطريقة التي وجدها، المبادرة لفتح حوار مع أرمينيا، وهو ما تصر عليه الولايات المتحدة.
وفي الواقع، يعتقد كثيرون من الأتراك أنه لا بد لهذا العداء أن ينتهي. وقد أشرت في مقالي المنشور بتاريخ 12 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، بعنوان "تأثير الأزمة بين أذربيجان وإيران في العلاقة بين أنقرة وطهران"، إلى "تطبيع محتمل على خط أنقرة - باكو - يريفان" وأن مثل هذا التقارب سيبدأ من جديد.
وقد بدأ هذا التقارب رسمياً الآن.
واكتسبت هذه العملية زخماً مع دبلوماسية الرسائل الإيجابية التي أرسِلت عبر وسائل الإعلام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الآونة الأخيرة، لاقى تصريح وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو القائل "سنعيّن ممثلين من كلا الطرفين في إطار خطوات التطبيع مع أرمينيا"، أصداء إيجابية في يريفان أيضاً.
حيث ردت وزارة الخارجية الأرمينية على الفور "نحن منفتحون على عملية التطبيع مع تركيا من دون أي شروط مسبقة، ونرحب بتعيين ممثل خاص". وهذه التصريحات من يريفان تعني طمأنة تركيا بأنها لن تلعب بورقة "الإبادة الجماعية للأمن" بشكل مباشر في الوقت الراهن.
ومن المثير للاهتمام أن جاويش أوغلو صرح بأنه عيّن السفير السابق لتركيا لدى واشنطن سَرْدارْ كِيليتش مبعوثاً خاصاً إلى أرمينيا. وأن تعيين هذا الدبلوماسي له مغزى خاص، حيث إنه كان قد أُرسل إلى واشنطن في مهمة خاصة، وهي الدفاع ضد "الإبادة الجماعية للأرمن" في الولايات المتحدة، وها هو الآن أصبح يحمل مهمة إحلال السلام مع أرمينيا.
وقد سبق وتواصلت مرات عدة مع السفير على وسائل التواصل الاجتماعي. إنه دبلوماسي مهذب ومجهز تجهيزاً جيداً ولم يتشبع بعقيلة حزب العدالة والتنمية.
ومع ذلك، أرى أن هذا التعيين كان خطأ بحق السفير وتركيا.
ولْنلق مزيداً من النظر على أسبابِ وخلفية تطور العلاقات الثنائية بهذه السرعة على خط أنقرة – يريفان:
كانت أول شعلة لهذه العملية هي حرب قرة باغ التي استمرت 44 يوماً، وانتهت بانتصار أذربيجان على أرمينيا العام الماضي. وفي نوفمبر (نشرين الثاني) 2020، تم التوقيع على بروتوكول الهدنة بين الطرفين تحت إشراف روسيا.
كان البروتوكول الموقع في موسكو بين الرئيس الأرميني نيكول باشينيان والرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، يهم تركيا أيضاً، حيث إنه ذو صلة غير مباشرة بفتح ممرات النقل بين تركيا وأذربيجان.
لأنه كان لا بد لفتح هذه الممرات بين تركيا وأذربيجان من وجود مصالحة، حتى لو لم تكن تسمى سلاماً، بين تركيا وأرمينيا أيضاً.
من ناحية أخرى، حاولت تركيا اتخاذ خطوات وإشارات إيجابية مختلفة تجاه بايدن في عديد من القضايا من أجل القضاء على الأجواء المتوترة الملحوظة في العلاقات التركية-الأميركية في عام 2021، بخاصة بسبب شراء صواريخ "S-400" من روسيا في عام 2021، لكنها لم تكن ناجحة لحد الآن.
كان من بين تلك الخطوات تأييد الموقف الأميركي تجاه أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، ومنها تصدي تركيا لتشغيل مطار كابول العاصمة الأفغانية.
لهذا السبب، لا تريد أنقرة أن ينتهي حوارها مع أرمينيا بخيبة أمل. والميزة التي تتمتع بها أنقرة هي أن الاستراتيجيات الأميركية في ما يتعلق بأرمينيا تتماشى مع استراتيجيات تركيا.
لذلك، لا نستبعد أن تكون الولايات المتحدة قد اتخذت خطوة لإنقاذ أرمينيا من سيطرة روسيا عبر أنقرة. هذه فرصة كبرى لرجب طيب أردوغان، الذي لم ينجح حتى الآن في إقامة العلاقة التي يريدها مع بايدن.
ومن المعلوم أن القضية الأساسية التي تسببت في قطع العلاقات بين تركيا وأرمينيا هي الأراضي الآذرية التي احتلتها.
وبما أن هذه المشكلة قد ارتفعت فعلياً بعد البروتوكولات الموقعة أخيراً بين أذربيجان وأرمينيا والمنتهية بانسحاب أرمينيا من تلك الأراضي المحتلة، فإن ذلك يعنى أنه هناك مناخاً إيجابياً يساعد على التقارب بين البلدين.
وقد كان الرئيس الأرميني نيكول باشينيان قد أعرب، من جانبه، عن الحاجة إلى فتح الحدود مع تركيا بطريقة أو بأخرى لأسباب اقتصادية.
ومن المعروف أن أرمينيا تواجه صعوبات اقتصادية كبيرة بسبب إغلاق الحدود مع تركيا منذ عام 1993.
وهناك نقطة أخرى حرية بأن نلفت الانتباه إليها، وهي أن تركيا بدأت ببناء أسوار على حدودها بذرائع الحرب السورية وهجرة الأفغان.
ولا يزال جدار قيد الإنشاء على جزء من الحدود السورية التي يبلغ طولها 900 كيلومتراً، وجدار آخر بطول 170 كيلومتراً على حدود إيران التي يبلغ طولها 560 كيلومتراً، ولكن لم تقم تركيا ولن تقوم ببناء جدار على الحدود التي يبلغ طولها 328 كيلومتراً مع أرمينيا التي تعتبرها تركيا الأكثر عداءً بين جيرانها.
ومن المعلوم أن لوبي الشتات الأرمني قوي جداً في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، بخاصة في فرنسا. دعونا نرى ما إذا كان هذا التقارب مع أرمينيا ستنفع حكومة حزب العدالة والتنمية في تحسين صورتها لدى الغرب، الذي عاش حتى وقت قريب علاقات متوترة جداً.