على عكس ما يحدث في السوق العالمية، تسير تركيا في الاتجاه المعاكس للسياسة النقدية والمالية المتشددة التي اتبعتها البنوك المركزية على مستوى العالم. وفيما تتجه البنوك المركزية الكبرى بقيادة الاحتياطي الفيدرالي إلى رفع أسعار الفائدة، يصر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على أن "الفائدة شر لا بد من التخلص منه"، ولذلك يعطي تعليماته للبنك المركزي الذي قام بخفضها مرات عدة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي.
على صعيد موجة التضخم التي تجتاح العالم، وبسبب القلق من ارتفاع الأسعار، أصبح بنك إنجلترا هو أول بنك مركزي رئيس يرفع أسعار الفائدة منذ أن بدأ الوباء. وسيتبع مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي السياسة نفسها خلال الأشهر المقبلة، مع توقع رفع أسعار الفائدة ثلاث مرات في العام المقبل.
يمكن المجادلة بشأن توقيت أو حجم ارتفاع أسعار الفائدة، ولكن يوافق كل خبير اقتصادي تقريباً على أنه عندما ترتفع الأسعار بسرعة، يمكن أن تساعد تكاليف الاقتراض المرتفعة في تقليل الطلب والتضخم. ومع ذلك، فإن هذا التوجه لا يحدث في تركيا، إذ دفع الرئيس رجب طيب أردوغان مراراً وتكراراً البنك المركزي -غير المستقل- إلى خفض أسعار الفائدة على الرغم من ارتفاع التضخم. والبنك يفعل ذلك بالضبط على الرغم من العواقب الوخيمة المحتملة.
لا بد من الأخذ في الاعتبار أن أسعار المستهلك في تركيا قفزت بنسبة 21.3 في المئة خلال العام الحالي حتى نوفمبر (تشرين الثاني). ويعتقد الاقتصاديون أن التضخم يمكن أن يرتفع بمعدل يصل إلى 30 في المئة خلال الأشهر الستة إلى التسعة المقبلة.
تركيا تخالف توجهات البنوك المركزية عالمياً
عالمياً، وبخلاف ما يحدث في تركيا، تستعد البنوك المركزية إلى موجة من رفع أسعار الفائدة، واضعة في اعتبارها التحول المتشدد لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، الذي يستعد لتقليص برنامجه لشراء السندات بسرعة مضاعفة عما كان متوقعاً، في محاولة لإعطاء نفسه فرصة لإجراء ثلاث زيادات في أسعار الفائدة خلال 2022، وفق ما ذكرته لجنة السوق المفتوحة بالمجلس عقب اجتماعها الذي استمر يومين.
وقدم مجلس الاحتياطي الفيدرالي مؤشرات متعددة على اقتراب نهاية سياسته الواسعة للتيسير الكمي، منذ بداية جائحة كورونا، ما يشير إلى تحركات صارمة في السياسة النقدية استجابة لارتفاع التضخم. وقال إنه سيسرع في خفض مشترياته الشهرية من السندات، التي سيقلصها إلى 60 مليار دولار بدءاً من يناير (كانون الثاني)، وهو انخفاض من 120 مليار دولار شهرياً قبل نوفمبر، فيما يعد تسريعاً كبيراً للبرنامج الذي انطلق الشهر الماضي عبر خفض تدريجي بقيمة 15 مليار دولار، وتضاعف الخفض إلى 30 مليار دولار في ديسمبر (كانون الأول)، ثم سيتضاعف من جديد في يناير المقبل.
كما يتوقع البنك المركزي الأميركي، البدء في رفع أسعار الفائدة في أواخر الشتاء أو أوائل الربيع، التي ظلت ثابتة في اجتماع هذا الأسبوع. وتشير التوقعات الصادرة حديثاً إلى أن مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي يتوقعون ما يصل إلى ثلاث زيادات في أسعار الفائدة مقبلة في عام 2022، تليها اثنتان في العام التالي واثنتان أخريان في عام 2024.
في السياق ذاته، كشف البنك المركزي الأوروبي عن نهاية دعمه الرئيس لمواجهة تداعيات جائحة كورونا في نهاية مارس (آذار) 2022. وأبقى على معدلات الفائدة الأساسية عند مستوياتها الصفرية، ومعدلات الفائدة على الودائع عند سالب 0.5 في المئة. وذكر أنه سيتم تخفيض مشتريات السندات كجزء من برنامج الشراء الطارئ تجاه الوباء بمقدار 1.850 مليار يورو (2.090 مليار دولار).
وبشكل مفاجئ، وبسبب ضغوط التضخم، رفع بنك إنجلترا المركزي سعر الفائدة إلى 0.25 في المئة من 0.1 في المئة. وصوتت لجنة السياسة النقدية المكونة من تسعة أعضاء في بنك إنجلترا بأغلبية ثمانية إلى واحد على رفع سعر الفائدة المصرفية بنحو 15 نقطة أساس إلى 0.25 في المئة. وصوت جميع أعضاء لجنة السياسة النقدية على إبقاء بنك إنجلترا برنامج شراء السندات بحجمه المستهدف 875 مليار جنيه استرليني (1.16 تريليون دولار) من دون تغيير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الليرة تسجل أسوأ أداء منذ عام 1995
وفي سوق الصرف، تواصل الليرة التركية انهيارها مسجلة أسوأ عملات الأسواق الناشئة خلال العام الحالي. وتشير البيانات إلى أن عملة تركيا فقدت ما يقرب من 60 في المئة من قيمتها مقابل الدولار الأميركي خلال العام الحالي. وفي بداية العام كان سعر صرف الدولار في حدود سبعة ليرات، لكنه قفز بنهاية تداولات العام إلى مستوى 16 ليرة، ما يدفع عملة تركيا إلى تسجيل أسوأ أداء لها منذ عام 1955.
ويرى محللون أنه أصبح من الصعوبة وفي ظل توجيهات الرئيس التركي للبنك المركزي بخفض أسعار الفائدة، أن تتخذ الحكومة التركية أية إجراءات من شأنها تهدئة خسائر الليرة أو طمأنة المستثمرين الذين يواصلون على وقع خسائر ونزيف مستمر للعملة وارتفاع مستمر في معدلات التضخم، خصوصاً أن البنك المركزي التركي لم يعد يمتلك احتياطيات كبيرة من العملات الأجنبية تدفعه إلى المغامرة والتدخل وضبط سعر صرف الدولار.
في ظل هذه البيانات والأرقام السلبية، فإن الحياة في تركيا تبدو أكثر قسوة على الأسر التي تستنزف بشدة مع ارتفاع معدلات التضخم والزيادات الكبيرة في مستويات أسعار السلع والخدمات. وبدلاً من أن يتدخل البنك المركزي ويرفع أسعار الفائدة لامتصاص السيولة الكبيرة في السوق فإنه يواصل خفض الفائدة، ما يعني دخول المزيد من الأموال إلى السوق وبالتالي تسجل الأسعار زيادات جديدة ومستويات قياسية وتاريخية في معدلات التضخم.
أما الرئيس التركي الذي يواصل الضغط على البنك المركزي الذي ينفذ تعليماته وخفض بالفعل أسعار الفائدة خلال الربع الأخير من العام الحالي، فقد أعلن تدخله وقرر رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 50 في المئة، وهذا الإجراء من شأنه أن يضيف أرقاماً جديدة إلى معدلات التضخم وانهيارات جديدة في سوق الصرف.
وخلال مؤتمر صحافي، قال الرئيس التركي "بهذه الزيادة في الأجور، أعتقد أننا أظهرنا تصميمنا على عدم السماح للعمال بالانهيار تحت وطأة زيادة الأسعار". وقد تمنح هذه الخطوة الرئيس أردوغان دفعة سياسية. لكن الأجور الأعلى تسهم بشكل معروف في زيادة معدلات التضخم، وقد تؤدي إلى تفاقم الوضع المتردي بالفعل.
وفي الوقت نفسه، تواصل البلدان الأخرى اتباع نهج أكثر تقليدية. فقد رفعت روسيا أسعار الفائدة بمقدار نقطة مئوية واحدة يوم الجمعة من أجل مكافحة ارتفاع الأسعار، وهي السياسة نفسها التي تتبعها البنوك المركزية على مستوى العالم.
الوكالات تواصل خفض تصنيف تركيا
وعلى وقع هذه الأزمات، أعلنت وكالة "ستاندرد أند بورز" للتصنيفات الائتمانية خفض التوقعات بشأن التصنيف الائتماني السيادي لتركيا إلى سلبي. وفي مذكرة بحثية حديثة، قالت الوكالة إن تخفيضات أسعار الفائدة والانخفاض الكبير في قيمة الليرة سوف يؤثران بشكل أكبر في التضخم، الذي قد يبلغ ذروته عند 25 إلى 30 في المئة على أساس سنوي في أوائل عام 2022.
وأشارت في شرح قرارها إلى ارتفاع الأسعار وتراجع سعر صرف الليرة التركية، بوصفهما مخاطر. وأضافت "يعكس توقعنا السلبي ما نعتبره مخاطر متزايدة على اقتصاد تركيا القائم على الاستدانة الخارجية على مدى الأشهر الـ12 المقبلة من التقلبات الشديدة في أسعار العملة وارتفاع التضخم، وسط إشارات متضاربة بشأن السياسات العامة".
ولم تغير الوكالة الدولية تصنيفها للدين التركي، لكنها حذرت من أن ذلك قد يتغير إذا أدت سياسات الحكومة إلى تقويض سعر صرف الليرة بشكل أكبر وتفاقم توقعات التضخم، ما يزيد من مخاطر حدوث تعثر في النظام المصرفي. وأشارت إلى أن الحساب الجاري لتركيا في وضع أقوى مما كان عليه في أغسطس (آب) 2018.
وأشارت إلى أن تفضيل الأسر الاحتفاظ بمدخراتها في البنوك دليل على ثقتها بالقطاع المصرفي. ورجحت الوكالة أن تبقى صادرات السلع قوية، وأنه في حال عدم تسبب متحور "أوميكرون" في اتخاذ تدابير وقائية جديدة، وفرض قيود على السفر الدولي، فإن ذلك سوف يساعد على تعافي السياحة التركية بشكل أكبر.
وقبل أيام، أبقت وكالة "فيتش" الدولية للتصنيف الائتماني على تصنيفها الائتماني لتركيا عند مستوى "BB-"، وغيرت نظرتها المستقبلية للبلاد من "مستقرة" إلى "سلبية". وذكرت أن نصيب الفرد من الدخل في البلاد يتجه نحو الانخفاض منذ عام 2013 من حيث القيمة الدولارية.