لكل زمن عاداته وأعرافه التي سرعان ما تتبدل على نحو جزئي أو كلي في وقت لاحق. وعلى الرغم من تكرار ما يحدث إلى حد الابتذال، فدائماً ما يفضي إلى احتكاكات مؤلمة بين جيلين. إنه الصراع الأبدي الممتد بامتداد الحياة البشرية، ولا شيء جديداً يستحق الذكر، لولا أن التوتر بين جيلنا تحديداً وجيل الألفية الثالثة هو الأشد ضراوة عبر التاريخ.
في عصر العولمة
في "أشباحي" الصادرة عن دار غرانتا للنشر 2021، تقتحم الكاتبة البريطانية غويندولين رايلي تلك الأرض الوعرة التي خبرتها بنفسها كأم، كما غيرها من الأمهات في هذا الزمن المخيف. شيء غامض يظل يتربى في الظلام، ربما منذ لحظة انفصال الحبل السري بين الاثنتين، وحين يخرج إلى الضوء لا تستطيع النظر إليه أو الإشاحة عنه. إنها الكارثة الجديدة التي ابتليت بها المرأة في عصر العولمة، بحيث تستطيع آلاف المؤثرات الأقوى والأذكى والأكثر جرأة أن يكون لها اليد الطولى على أولادهن، فأي جحيم ظل مختبئاً تحت أقدام الأمهات.
"أشباحي" هو الكتاب السابع لرايلي في مسيرة تمتد على مدى عقدين تقريباً، أبدعت خلالها روايات مكثفة ومعقدة تتطرق إلى تلك المناطق الحميمة بحثاً عن إجابات أسئلة من نوع لماذا أو حتى كيف يمكن لعلاقات مشوهة تتقلب على تجاربها المريعة في كثير من الأحيان، أن تستمر؟ إنها رواية مقلقة من جوانب عدة سواء في طرحها علاقة الحب غير المشروطة أو في الطريقة التي تستجوب بها قضايا الوراثة والنشوء والتأثير والتأثر لفحص تلك الرابطة المخيفة، لكنها تبدو أقل إثارة للقلق عن روايتها السابقة، "الحب الأول"، التي قدمت فيها صورة مصغرة عن زواج مهلك من منظور كاتبة تدعى نيف، تزوجت من شخص يدعى إديون أكبر منها سناً، وحين رشحت لجائزة المرأة عام 2017 قالت رايلي "إنه شيء غريب. لا أشعر أنني أقوم بابتكار مجموعة من الأعمال، كل رواية تحكي ما أريد أن أقوله ولكن بطريقة أفضل".
بين الإيجاز والتكرار
تكشف رايلي بوحشية التمزق المريع الذي طال كلا الطرفين حين نلتقي بريدجيت غرانت، ابنة لوالدين انفصلا منذ فترة طويلة، وكل منهما يشدد عليها قبضة محكمة. على الرغم من حقيقة أنها نادراً ما تقابل أمها هلين، بينما والدها لي الرجل المزعج والمشاكس بطبعه، يموت مبكراً.
نيف وإديون يعاد استنساخهما هنا مرة أخرى، وهما يواصلان طريقهما المقدر لهما كأبوين، بعد أن انفصلا وبريدجت في عامها الثاني. تعيش بريدجيت مع صديقها جون، بينما تعيش والدتها المطلقة بمفردها، محاولة التكيف مع حياتها على نحو صحيح كما تظن، لكن هذا لا يسهم ولو بقدر ضئيل في تذويب الثلوج بينها وبين ابنتها المتعالية والباردة تجاهها من دون تفسير واضح لذلك، فالقارئ لا يتسنى له أن يعرف كل ما حدث في ماضي الاثنتين، وما هو الألم الذي ألحقته الأم بابنتها. لماذا تصر على الحفاظ على هذه المسافة الصارمة منها، ولا تسمح لها بالدخول إلى منزلها حتى حينما تظهر فجأة على عتبة بيتها في أمس الحاجة إلى استعمال الحمام. لماذا تبدو حياتها فارغة وتفتقر علاقتها بصديقها وأختها ميشيل إلى مشاعر الدفء أو الفرح؟
هناك توتر رائع بين إيجاز رايلي بجملها المكثفة القادرة على أن تلخص شخصية أو موضوعاً في بضع كلمات قصيرة، وثيمة التكرار المنبثقة من طبيعة الحياة نفسها، وكأن التاريخ يعيد نفسه في شخوص مختلفة.
في الحب الأول تقترح نيف على والدتها التعسة اللجوء إلى العلاج: "أعني إذا شعرت بخيبة أمل أو بأنك عالقة في أشباحي"، تفعل بريدجت الشيء نفسه: "هذا شيء يمكنك القيام به إذا شعرت بأنك عالقة أو خائفة". لكن الأم لا تفعل، إنها تطرح الانسحاب كأحد الحلول للدوار اللامتناهي جراء هذه العلاقات السامة.
استحالة رأب الصدع
تبدو الراوية التي تحكيها الأم بضمير المتكلم متباعدة قليلاً وغامضة، تاركة للقارىء ملء الفراغات المسكوت عنها، والمشاركة بدورها في السرد، فلكل منا قصة وعدد لا يستهان به من البشر يمرون بالمأساة ذاتها، وهم يدركون تماماً مدى قلة حيلتهم الميؤوس منها، ولكنها حين تتعرض لحادثة وتضطر بريدجيت إلى رعايتها يظن القارئ لوهلة إمكان التقارب بينهما، لكن رايلي بدلاً من ذلك تصعقه تماماً حين تؤكد استحالة الاتصال، موضحة مدى الشراسة التي يدافع بها كل منهما عن أرضه الخاصة، لتأتي النهاية المفجعة على نحو يتعذر نسيانه.
رايلي قاسية في تعرضها لتلك الرابطة المختلة بين الأم وابنتها والتي لا مفر منها على الرغم من قبضتها الخانقة والطريقة التي تمزق بها إحداهن الأخرى، وهو ما عالجته أخيراً عدد من الروائيات منها الكاتبة أفني دوشي في روايتها الذكية، الحادة كالشفرة "سكر محروق Burnt Sugar".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ترسم رايلي في روايتها التي اختيرت من أفضل الروايات لعام 2021 صورة تافهة للأب كمن يتخطى دائماً حدود جسده وإمكاناته الحقيقية. وعلى عكس صورته في الحب الأول، تعمد بجرأة إلى تحويله إلى شخصية مرحة مسلية ومثيرة للضحك، لكن موضوعها الحقيقي هو هلين الأم، فهي ليست متنمرة بل عنيدة، وبعد أن تحملت أهوال زواجها تسعى إلى الخلاص من خلال الفن والأفلام والحانات التي رفضتها سابقًا خوفاً من ردود الفعل. ولكن على طريقة إيلينا فرانتي الكاتبة الإيطالية المستترة تحت اسم مستعار، مما يجعل الابنة نفسها تتسلى بمحاولة كشف هذه الحقيقة خلال العشاء السنوي الكئيب بمناسبة عيد ميلاد هلين، وسرعان ما تتعلم تحمل سخافاتهما بدلاً من رفضها.
هذه الشخصيات الأبوية على الرغم من أنها تشكل أشباحاً مزعجة للجيل الجديد كما فعلت مع الأجيال السابقة، فإن بريدجيت مثل كل شخصيات رايلي لديها الشجاعة لمواجهة أشباحها بمنتهى القسوة.
إنها تقاتل لمقاومة توغل والديها في شخصها البالغ بتحصين نفسها داخل حدود لا تسمح لهما بتجاوزها، وبينما يحاول الأب اختراق تلك الحدود تلجأ الأم إلى التفاوض مع ابنتها لرأب الصدع وكسب رقعة أرض ولو صغيرة.
"أشباحي" ليست مجرد حكاية رائعة عن العلاقة الممزقة بين الأم وابنتها، حين تتحول كل مواجهة بينهما إلى معركة لأن كلا الطرفين يريد شيئاً أكثر أو مختلفاً عن الآخر، بل هي بالأحرى ناقوس خطر تقرعه رايلي لأجل خاطر الأمهات اللواتي أفقن فجأة على انسحاب البساط من تحت أقدامهن.