تعرضت الحكومات المتعاقبة في تونس في العشرية الأخيرة إلى انتقادات لسياستها الاقتصادية، تعلقت بعدم مراجعة الاتفاقيات الاقتصادية المبرمة بين تونس وعدد من الدول، بسبب عدم التوازن الذي يلحظه التبادل التجاري مع هؤلاء الشركاء، ومن ضمنها خصوصاً الاتفاقية المبرمة مع تركيا التي تعاني تونس عجزاً مستفحلاً في الميزان التجاري معها.
ولاحت منذ يومين بوادر مراجعة هذه الاتفاقية في لقاء جمع وزيري خارجية البلدين، إذ اتفق وزير الشؤون الخارجية والهجرة التونسي عثمان الجرندي خلال لقائه نظيره التركي تشاووش أوغلو على "تعزيز التشاور والتنسيق حول عدد من المسائل ذات الصلة بالتعاون الثنائي، ولا سيما دعم التبادل التجاري المتكافئ من خلال إعادة صياغة الاتفاقيات التجارية، بشكل يمكن من تعديل الميزان التجاري بين البلدين، ويفتح آفاقاً أرحب للمنتوجات التونسية لدخول الأسواق التركية"، وفق بلاغ لوزارة الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين في الخارج، وذلك إثر اجتماع وزراء الشؤون الخارجية في إسطنبول تحضيراً لقمة الشراكة الأفريقية التركية الثالثة. واعتبر محللون تحدثوا لـ"اندبندنت عربية"، أن طلب مراجعة اتفاقية التبادل التجاري الحر مع تركيا مؤشر مهم لمواجهة العجز التجاري الناتج عن اتفاقيات غير متكافئة وجب تعديلها. كما لم يستبعدوا تعليقها بحكم الوضعية غير المستقرة للمدخرات التونسية من العملة الصعبة بسبب تفاقم عجز الميزان التجاري.
نسق تصاعدي
ويبلغ العجز التجاري مع تركيا خمس مجموع العجز بالميزان التجاري لتونس، وهو 12 مليار دينار (4.28 مليار دولار) عام 2020.
ويساوي العجز التجاري لتونس مع تركيا 890 مليون دولار، وفق وزارة التجارة، وهو ثالث أكبر عجز تجاري لتونس مع بلدان وقعت معها اتفاقيات مماثلة بعد الصين والاتحاد الأوروبي.
وفي محاولة لمواجهة عدم التوازن المستفحل رفعت تونس عام 2018 التعريفة الجمركية لعدد من المنتجات الواردة من تركيا، ولم يسفر ذلك عن تقليص ملموس في حجم العجز التجاري المتفاقم.
ويسير العجز في نسق تصاعدي من سنة إلى أخرى، وبلغ 2.3 مليار دينار (821 مليون دولار) لغاية أغسطس (آب) 2021.
وبلغ حجم الواردات التركية ما قيمته 2.63 مليار دينار (939 مليون دولار) عام 2020. ولم يتجاوز حجم الصادرات التونسية لهذا البلد 0.330 مليار دينار (0.117 مليار دولار).
ويسير نسق الواردات من تركيا حالياً إلى تسجيل ارتفاع منتظر لعام 2021، إذ يتوقع حسب المؤشرات الحالية، ارتفاع العجز إلى 2.5 مليار دينار (892 مليون دولار)، علماً أنه سجل تصاعداً في السنوات العشر الأخيرة من 1.4 مليار دينار (500 مليون دولار) عام 2017 إلى 1.7 مليار دينار (607 ملايين دولار) عام 2019.
النسيج والجلود
وتتكون الواردات من نسبة ضئيلة من المواد الأولية أو الأساسية، ويتمثل أغلبها في سلع متنوعة صنفت من الكماليات، وهي تنافس السلع المحلية الصنع، ما أدى إلى إغلاق العديد من المؤسسات التونسية.
ويتم استيراد سنوياً ما قيمته 1.3 مليار دينار (464 مليون دولار) من النسيج من تركيا، ويبلغ العجز في هذا القطاع مليار دينار (357 مليون دولار).
بينما يبلغ العجز على مستوى الجلود والأحذية 130 مليون دينار (46.4 مليون دولار)، وتأتي تركيا على رأس البلدان التي تستورد تونس منها هذه السلع، وأيضاً إيطاليا تليها الصين.
وتكبد القطاعان خسائر جمة جراء تدفق السلع التركية، تليهما قطاعات تجهيزات البناء والمواد الصحية وبعض أصناف من الصناعات الغذائية مثل الحلوى والشوكولا، ومواد التجميل وبعض المنتوجات الفلاحية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واستفادت السلع التركية من قدرتها التنافسية الكبيرة بسبب مِنح الإنتاج الضخمة من قبل سلطات بلدها. بينما عجزت المنتوجات التونسية عن منافسة هذا السيل الجارف من السلع بسبب تكلفة إنتاج محلية عالية وغياب الحوافز.
وأدى ذلك إلى غلق آلاف المصانع التونسية، وقد شهدت المدينة الصناعية بصفاقس في الجنوب الشرقي التونسي إفلاس وإغلاق نحو سبعة آلاف مصنع أحذية. وانخفض عددها من عشرة آلاف مؤسسة مختصة في هذا المجال إلى 2500. كما أفلس عشرة آلاف مصنع للملابس الجاهزة، ويقتصر عددها حالياً على خمسة آلاف فحسب، وذلك بسبب تسونامي الملابس التركية التي غزت السوق. ويمر أحد أبرز مصانع الأقمشة والنسيج والملابس الجاهزة بمدينة قصر هلال في محافظة سوسة الساحلية (الوسط الشرقي) بضائقة مالية، وهو مهدد بالإقفال. كما تغرق أكبر مؤسسة تونسية لإنتاج أجود تجهيزات البناء والمواد الصحية في الديون وتعجز عن مقاومة المنافسة غير المتكافئة مع الواردات التركية.
اتفاقية مجحفة
ووقع الجانبان التونسي والتركي اتفاقية التبادل التجاري الحر عام 2005، ويتم بمقتضاها إعفاء المنتوجات الصناعية كلها من الرسوم الجمركية، كما تقضي أيضاً بإعفاء بعض المنتجات الزراعية من هذه المعاليم إلى حدود سقف معين. ولم تتم مراجعة فصول الاتفاق طوال السنوات المنقضية.
ويرى المحلل معز الجودي أن هذه الاتفاقية مجحفة بالنسبة إلى الجانب التونسي، بسبب عدم التكافؤ في حجم السلع المتبادلة، وقد تحولت إلى عملية توريد واستفادة من جانب واحد، مذكراً بأن فصول الاتفاق توفر الصلاحيات للطرفين بتعليق الاتفاقية برمتها حسب الوضعية الاقتصادية للبلاد. ويمر التعليق بمراحل من إيقاف مؤقت إلى إجراء دائم في حال عدم التوصل إلى نتائج مثمرة وملموسة على نطاق الميزان التجاري. وتحتم الظروف الاستثنائية التي تمر بها تونس إعادة النظر في الاتفاقيات التجارية كافة، إذ يعاني الميزان التجاري في المجمل من عجز قدره 1.34 مليار دينار (478 مليون دولار) في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، وفق المعهد الوطني للإحصاء (حكومي). وقد تراجعت الموجودات الصافية من العملة الأجنبية إلى 21.5 مليار دينار (7.67 مليون دولار) ما يساوي 126 يوم توريد. وهي مؤشرات سلبية تدعو إلى ترشيد التوريد للحفاظ على مخزون العملة الصعبة مقابل تحفيز التصدير.
في المقابل، من الصعب التوصل إلى اتفاق مع الجانب التركي بالرفع من مستوى توريد السلع التونسية في إطار فرض تكافؤ التبادل التجاري. ويعود ذلك إلى الصعوبات التي تواجهها المنتوجات الصناعية التونسية وعدم توفر القدرة التنافسية، التي تخول لها غزو الأسواق التركية، وعدم اتساع المجال للمواد الغذائية التونسية. وتتوقف آفاق الرفع من الصادرات نحو تركيا عند فرضيات إيجاد سوق للفوسفات، ويشترط استرجاع تونس نسقاً منتظماً ومرتفعاً لإنتاج الفوسفات، عكس الوضعية الراهنة التي تتسم بتأزم الوضع الاجتماعي بالحوض المنجمي.
أما الاقتصادي عبد الجليل البدوي فرأى أن الاتفاق يستوجب التعديل وإنقاذ بعض المنتجات المحلية، وهو أمر وارد في حال التباحث لإيجاد صيغة تفاهم لتبادل عادل. ولا تنقص الصعوبات التي أنهكت بعض الصناعات التونسية من قدرة البعض الآخر على التنافسية. ويشترط التفاوض حول إيجاد أسواق للمنتوجات التونسية ذات الجودة العالية، مثل قطع الغيار والصناعات الميكانيكية بصفة عامة، مع عدم استبعاد فرضية تعليق العمل باتفاقية التبادل الحر في حال عدم التوصل إلى صيغة مشتركة. وهو أمر وارد بمقتضى تآكل المدخرات في تونس بسبب تسديد الديون، والحاجة الملحة للضغط على الواردات من تركيا والصين.