يعرف عبد الإله المويسي القواعد الكلاسيكية والحديثة لكتابة الشعر، فمهمّته هي تدريس الأدب بشقيه القديم والحديث، لكنه يسعى باستمرار إلى تجاوز هذه القواعد، متناغما أكثر مع ما أتاحته التجارب الأحدث في أميركا وأوروبا من مساحات تجريبية متعاقبة. إن رهانه مختلف عن الكثيرين، فهو لا يعوّل على قصيدة تريح القارئ، وتجلب تعاطفه، ولا يفكر في بناء متماسك يحترم الأعراف المتداولة للكتابة الشعرية. إنه منشغل على الدوام بالبحث عن مناطق جديدة يقيم فيها الشعر.
هذا الانشغال يتلمسه القارئ بشكل متدرج في أعمال المويسي السابقة، خصوصاً مجموعته الشعرية ما قبل الأخيرة "أقتني الشعر باستعمال الماستر كارد"، لكنه يبدو له جلياً في عمله الأحدث "أقرأ كاي جاميسون وأفكر في قابضة السوبر ماركت" الصادر عن بيت الشعر في المغرب. فالعنوان في حد ذاته مفتاح أساس لعوالم الكتابة عند هذا الشاعر. لا يتصنع المويسي التجديد في الكتابة تعقباً لوهم الجِدّة فحسب، بل إنه، ببساطة ووضوح، يكتب ما يعيشه، ينقل إلينا تجاربه في الحياة، حياته هو التي سيلحظ المتلقي أنها حياة معاصرة بالفعل، عمّقتها تجاربُه في السفر والتقاطع مع كائنات وأمكنة وأشكال وأساليب حياة من جغرافيات متنوعة، فضلا عن مرجعيته القرائية التي تعتمد على أكثر من لغة.
في كتابه الجديد يبدو الشعر حاضناً لفنون وثقافات أخرى، إذ يتجاور التشكيل مع الموسيقى والسينما والسوسيولوجيا والاقتصاد والفلسفة والأزياء والسياحة والرقص ووسائط التواصل الجديدة.
منذ نصه الأول "جولتي المسائية في باريس مع Alain Badiou" يكشف المويسي عن تصوره للكتابة: "نفكّر معاً في أن نجعل القصيدة أقلّ أفلاطونية/ نفكر في أن نجعلها أقل قدرة على البكاء مساءً حين تغادر البولفار/ قاصدةً شقّتها الصغيرة حاملة كيسها الورقيّ بين ذراعيها". إنه يتغيّا تلك القصيدة الرشيقة التي تشبه نفسها وتشبه كاتبها: "أفضل القصيدة حفيفة الظل/ خفيفة الوزن/ وحفيفة الملابس/ قصيدة تلبس الشورت وتضع نظارات Ray-ban فوق رأسها". يحاول الشاعر، في عمله التجربيي، أن يكتب نصوصاً تواكب الحياة الجديدة، من دون التستر وراء بلاغات ثقيلة وإيغال في مشاعر درامية تفوق حقيقة الوضع. وهذا رهان صعب في الحقيقة، فتاريخ الشعر العربي منذ بداياته إلى عصرنا مبني في معظمه، من حيث الشكل، على البلاغة والاشتغالات اللغوية، ومن جهة الدلالة على الجانب الفجائعي، حتى في المتون التي تنهل من تجارب الحب. وهذه "الخفة" في نصوص المويسي قد تواجه من لدن الذائقة العامة بالنفور وعدم الترحيب، بل قد تتلقى أحكاماً إقصائية، مثل الاستسهال والتسطيح.
لا يتأخر الشاعر على قارئه في تفسير تصوره للكتابة بشكل أوضح، ففي النص الثاني "أدير الاستعارات مثلما أدير الأموال السوداء" يدخلنا جميعاً إلى ورشة الكتابة لديه، كاشفاً عن خلطته السحرية التي تتشكل منها نصوصه التي تبدو كما لو أنها ضرب من المغامرة في أرض الكتابة العربية، وهو كشف يشبه البيان، والمقطع التالي كاف للتدليل على ذلك: "53 سنة وأنا أمارس الأحتيال الشعري/ أسرق الكلمة وأدخل فيها/ أغير في حمضها النووي/ وأتقمصها/ أدخل خلاياها/ وأتلاعب بها/ أضيف في جيناتها/ وأجعلها تناسبني/ أسرق الفكرة أيضاً، أقضي معها ليلتي الأولى وأغادرها/ أتركها مبعثرة في فراش الصباح وأنزل المصعد/ أترك كأسها منتصفة وأخرج أقطع الشارع أعلق سترتي على كتفي/ 53 سنة وأنا ادير الاستعارات مثلما أدير الأمول السوداء/ أتابع الانخفاض المهول في المؤشرات والسندات في بورصة قلبي اليومية وأكتب".
وكتنويع وتفريع لبيان الكتابة هذا، وضمن النصوص الأولى من الكتاب، يرفع إهداءً إلى حنّة أرندت يخبرها فيه أن كل ما يفعله حين يكتب هو تحرير اللغة من ثاني أوكسيد الكربون. وفي نص عنوانه "أقطن بالضبط في 1920 بالضاحية 55 من باريس" يصرّح أيضاً: "أكتب وأدقّ الأرض برجلي...أكتب لإبقاء الصور حيّة في خيالي". وفي نص "Rock and roll" يعلن: "سأظل أكتب، أخالف/ أضواء المرور/ وأضواء النيون/ وأضواء النجوم". في نص عنوانه "مصلح أبواب. منظف زجاج أعلى برج في نيويورك. صرّاف دولي" يجعل الاستهلال على النحو التالي: "أحياناً عليك أن تتجاهل القواعد/ لا أقرأ للكتّاب المتحولين جنسياً/ لا أحب الانتظار طويلاً في غرفة جلوس العبور الدولية بين الأجناس الأدبية...لا أقرأ أيضاً للشعراء الذين يكتبون بصوت منخفض".
إننا أمام كتابة صاخبة فعلاً، لا تهادن الأدب "الهادئ" ولا المحيطَ الذي خرج منه، ومن داخل الشعر يتم توجيه النقد إلى كتابة أخرى، يسعى الشاعر باستمرار إلى تجاوزها، أو على الأقل إلى توسيع المسافة معها.
الأنثى التي تحضر في نصوص المويسي هي أنثى واقعية، وليست مستوحاة من الخيال. وهذه الواقعية لا تشمل العلاقات العاطفية فحسب، بل تنسحب على كلّ أشكال الحياة الضاجة التي يحفل بها الكتاب. في نص "ليس ممكناً أن تخبريني أي شكل أخذت رائحتي في فراشك أمس" يخبرها أنه لم يقرأ رسائلها الإلكترونية، لأن حاسوبه معطل، ولم يفتح حسابه على فيسبوك، ويتقاسم معها ذوقه الموسيقي، ويحدثها عن صعوبة الكتابة، وعن شهوته الباردة.
إن اختيار الواقعية في الكتابة له ما يبرره، فالحياة الجديدة قرّبت كل شيء، وجعلته متاحاً، وبالتالي فهذا الثراء الواقعي يجب استثماره والنهل منه، فهو من جهة يتيح إبدالات شعرية جديدة مرتبطة بتجارب ومظاهر حياتية أكثر راهنية، ومن جهة ثانية يكاد يُعفي الكاتب والمتلقي معاً من تعب الخيال.
يضمر الشاعر ولعاً بالعناوين الطويلة والغريبة: "أضع سماعات على أذني في الشارع العام أبتهج بأغاني Nina Simone أمشي وأنا أهتز"، "أسلق البيض أنظف أظافر رجلي أعزف على قيثار مستعمل وأفكر في ساقي Alicia Vikander"، أجمل ما يمكن أن يظل عالقاً بذهنك بباريس هو احتساء les moules رفقة عينيها ترمشان ببطء"، وغيرها من العناوين التي تحمل في الغالب أسماء أعلام دالة على أمكنة أجنبية أو على شخصيات من السينما والأدب والموسيقى. وما تحمله العناوين في هذا الشأن تترجمه النصوص عبر صور شعرية مركبة وأخاذة، وأحياناً صادمة. ويبدو أنه من الضروري على قارئ شعر المويسي في كتابه الجديد أن يكون على مقربة من لوحة المفاتيح، كي يتعقب مع الشاعر أسماء الأعلام التي يحفل بها الكتاب، وهي أسماء غزيرة تحيل بالضرورة على شساعة الحياة التي يعيشها الشاعر سواء في الواقع أو على الورق.
وفي هذا السياق يبدو أن إيراد الشاعر اسم عالمة النفس الأميركية كاي جاميسون في عنوان الكتاب لم يكن من باب الإقحام المجاني، بل له ما يبرره. فالكتاب هو رصد للتحولات النفسية لدى الكائن المعاصر، هذه التحولات الداخلية المرتبطة أساساً بتحولات أخرى خارجية اجتماعية واقتصادية وسياسية، وبالتالي فالشاعر هو الترجمة المعبرة لما يوجد داخل المجتمع، وهو الشاهد على كل هذا التحولات التي يعرفها العالم الجديد بأضوائها وبظلماتها.
إننا أمام تجربة قد نتشابك معها بشكل إيجابي، وقد نختلف معها أيضاً. لكننا لا نملك إلا أن نقدّرها، ذلك أن القارئ المواكب لتحولات الكتابة في أطراف العالم يعرف المضمار الذي يركض فيه الشاعر، ويملك بالتالي القدرة على ضبط المسافة وعلى مسايرة الإيقاع.