أوردت صحيفة "وول ستريت جورنال" أن 39 مليون عامل في أميركا تقدموا باستقالاتهم خلال الأشهر العشرة الأولى من هذه السنة، في أعلى رقم من نوعه منذ بدء التسجيل في 2000. ويرغب البعض في وظائف أفضل، ويسعى البعض الآخر إلى توازن أفضل بين حياتهم العملية وحياتهم الخاصة. لكن ثمة منهم من يرغب في الابتعاد تماماً على الضغط الناجم عن العمل في الشركات. فبعد سنتين تقريباً من حلول الجائحة التي دفعت الملايين إلى العمل من المنزل، يعيد أميركيون كثيرون التفكير في علاقتهم بالعمل.
واستطراداً، لفتت الصحيفة إلى أن الشركات تعاني في سياق سعيها إلى وقف مغادرة الموظفين وتعزيز المعنويات. ويحاول بعضها فرض أيام عطل إلزامية على الشركة بأسرها، وإطفاء الأنوار في الأوقات التي يُمنَع فيها عقد الاجتماعات. ويجرب مسؤولون تنفيذيون طرقاً جديدة للعمل تشمل العمل لأربعة أيام في الأسبوع مع السماح للموظفين بتحديد ساعات عملهم. ويرى أصحاب العمل أن الاحتراق الوظيفي، وهو مشكلة يعاني منها العاملون الأميركيون منذ زمن بعيد وتفاقمت بسبب الجائحة، يشكل السبب الرئيس للاستقالات.
وفي ذلك الصدد، بيّن استطلاع أجرته المؤسسة البحثية، "مجلس المؤتمرات"، في سبتمبر (أيلول) الماضي، أن أكثر من ثلاثة أرباع العاملين الألف و800 الذين شملهم الاستطلاع، أشاروا إلى مخاوف من نوع الإجهاد والاحتراق النفسي، باعتبارها تحديات كبيرة أمام العمل المُرضي، بزيادة عن 55 في المئة عما كانه قبل ستة أشهر. وكذلك نصف المشاركين إن الضغط العصبي المتصل بعبء العمل يضر بصحتهم العقلية- النفسية، وفق الصحيفة.
وفي السياق نفسه، أشارت "وول ستريت جورنال" إلى أن توم لارو، وهو مدير في مجال تكنولوجيا المعلومات يبلغ من العمر 45 سنة ويعمل لدى شركة للخدمات المالية في برونسويك بولاية أوهايو، أمضى أكثر من سنة يعمل ويساعد ابنيه الصغيرين على متابعة الدراسة عبر الإنترنت. وما لبث أن خسر حماته بسبب "كوفيد- 19". واحترقت أعصابه، بحسب كلماته. وفي سبتمبر، عانى من نوبة هلع حينما توجّب عليه أن يعطي ابنه المصاب بمرض السكري حقنة إنسولين، ولم يتمكن من تذكر الجرعة بقسمة 50 على 25 إلا بواسطة آلة حاسبة. وأشار إلى أن صاحب عمله وفر للموظفين جلسات في إدارة الضغط العصبي، وقد شملت توصياتها الحصول على الاستراحة لخمس دقائق بين وقت وآخر، إضافة إلى ممارسة التأمل.
ونقلت الصحيفة نفسها عن ألستير سيمبسون، نائب الرئيس للتصميم في شركة البرمجيات "دروب بوكس"، أن العمل المفرط المزمن منتشر منذ ما قبل الجائحة، لافتاً إلى أن الناس كانوا يساوون بين الانشغال والأداء الجيد. وخلال العقدين الماضيين، زاد متوسط يوم العمل في الولايات المتحدة بواقع 1.4 ساعة، وفق استطلاع أجرته مؤسسة "غالوب". وبالنسبة إلى ملايين الأميركيين، أطالت الجائحة يوم العمل أكثر مع تراجع التنقل بين المنزل والمكتب واضطراب جداول العمل. وفي استطلاع أجري هذه السنة، ذكر 16 في المئة من العاملين الأميركيين أنهم يعملون لأكثر من 60 ساعة في الأسبوع، بالمقارنة مع 12 في المئة عام 2011.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولفتت الصحيفة إلى أن زيادة الشركات استخدام برمجيات مصممة لأداء فرق العمل في الشركات، على غرار "سلاك" و"مايكروسوفت تيمز"، أغرقت الموظفين بإشعارات وطلبات للدردشة. وبين فبراير (شباط) 2020 وفبراير 2021، زاد الوقت الذي يمضيه الناس في استخدام "تيمز" أكثر من الضعفين، ويواصل الارتفاع، وفق بيانات من "مايكروسوفت". ويستجيب نصف الناس الذين يستخدمون "تيمز" لطلبات الدردشة خلال خمس دقائق أو أقل، بحسب الشركة، في حين زادت الرسائل الإلكترونية المرسلة بعد انتهاء دوام العمل بواقع 10 في المئة. ووفق "سلاك"، زادت الرسائل المرسلة عبر برنامجها بنسبة 62 في المئة بين فبراير 2020 ونوفمبر (تشرين الثاني) من هذه السنة.
وفي سياق متصل، أكدت "وول ستريت جورنال" أن استطلاعات "غالوب" تبيّن أن مستويات الضغط العصبي والقلق زادت خلال جائحة كورونا لدى العاملين من مختلف الأطياف. ففي 2019، ذكر 48 في المئة من الأميركيين أنهم عانوا من ضغط عصبي كبير في اليوم السابق، وفق استطلاع لـ"غالوب". وبحلول ديسمبر (كانون الأول) 2020، وصل الرقم إلى 51 في المئة لدى العاملين في أماكن العمل و59 في المئة في صفوف العاملين من المنزل. وقد اتّضَحَ أيضاً أن من يعانون من الاحتراق الوظيفي أكثر ميلاً إلى طلب إجازة مرضية ليوم واحد بـ63 في المئة بالمقارنة مع غيرهم، وأكثر ميلاً إلى البحث الفاعل عن وظيفة أخرى بنسبة 75 في المئة تقريباً، بالمقارنة مع سواهم.
ووفق الصحيفة، تحاول "دروب بوكس" التقليل إلى الحد الأدنى من الاحتراق الوظيفي من خلال إعطاء الموظفين تحكّماً أكبر في عملهم. ففي خريف 2020، قررت الإبقاء في شكل دائم على بعض التغييرات التي أدخلتها خلال مرحلة الجائحة، بما في ذلك السماح لموظفيها الألفين أن يعملوا بدوام كامل من المنزل مع منحهم سيطرة أكبر على تحديد موعد إنجاز كل مهمة، طالما أنهم يعملون الساعات المطلوبة، ويتوفرون خلال فترات محددة.
واتصالاً بذلك، لفتت "وول ستريت جورنال" إلى أن عبارة العمل غير المتزامن تعني نظرياً إن من يحبون العمل في النهار ومن يفضلون العمل في الليل يملكون خيار العمل، في الوقت الذي يرغبون فيه. وقد أفاد السيد سيمبسون، المسؤول التنفيذي عن التصميم في "دروب بوكس"، إنه يتوقف عن العمل عند الساعة الثالثة بعد الظهر أيام الاثنين والجمعة ليمضي وقتاً مع أطفاله، ثم يعاود العمل بعد الساعة السابعة مساء. ولا يلتقي الموظفون في المكتب إلا في مناسبات معينة أو حين يكون التعاون الشخصي ضرورياً.
وكذلك نقلت تلك الصحيفة عن السيد سيمبسون أن الشركة نظرت في نظام عمل هجين يشمل العمل من المكتب والعمل من المنزل في آن، لكن النظام شابته عيوب، لا سيما ميل المديرين إلى مكافأة العاملين الذين يحضرون إلى المكتب، وعدم فعل الأمر نفسه مع العاملين من المنزل. وكذلك يؤدي لجوء الموظفين إلى تقسيم عملهم بين المنزل والمكتب، إلى وضعية تجعلهم يشتكون من أن الوقت المخصص للعمل من المنزل يشوبه حدوث اتصالات كثيرة بالفيديو [من العمل] ما يضطرهم إلى العمل لأوقات بعد انتهاء الدوام، وهذا ما حصل لدى موظفي بنك "سيتي غروب".
ووفق الصحيفة، تميز ذلك المصرف في وقت سابق من العام عن بنوك أميركية أخرى بأنه عرض خيارات عمل أكثر مرونة في قطاع معروف بساعات عمله الطويلة. وأخيراً، أعلن أخيراً السماح للموظفين العاملين لديه منذ 15 سنة على الأقل بأخذ إجازات غير مدفوعة لمدة ستة أسابيع. وحض "سيتي غروب" الموظفين على تجنب الاتصالات بين الساعة 12 ظهراً والواحدة بعد الظهر، وتخفيض أوقات الاجتماعات التي تُخصَّص لها ساعة إلى ثلاثة أرباع الساعة.
وبحسب الصحيفة، تحدد "منظمة الصحة العالمية" الاحتراق الوظيفي بأنه الشعور بالإرهاق وتراجع الفاعلية بسبب الضغط العصبي المزمن في مكان العمل. وقد شرعت تلك الظاهرة في التراكم منذ ما قبل الجائحة. إذ قفزت نسبة الأميركيين الذين يذكرون أنهم يعانون منه كثيراً أو دائماً، من 23 في المئة عام 2016 إلى 28 في المئة عام 2019. ولا تزال النسبة على حالها اليوم، وفق استطلاعات أجرتها "غالوب". في المقابل، قفزت معدلات الضغط العصبي والقلق في صفوف العاملين إلى 60 و58 في المئة على التوالي بحلول مارس (آذار) 2020، بالمقارنة مع 46 و38 في المئة قبل جائحة كورونا، وفق الاستطلاعات. وقبل الجائحة، أورد 60 في المئة من الموظفين أن الصحة العقلية شيء يجب أن يهتموا به من دون مساعدة صاحب العمل، وفق استطلاعات أجرتها "ميت لايف" للتأمين. وقد انقلبت الآية، مع حلول يونيو (حزيران)، إذ أورد 62 في المئة أن صاحب العمل يتحمل مسؤولية حُسْن وضعهم العقلي- النفسي.