تنتشر النواقص في العمالة بمختلف أرجاء العالم المتقدم، وتبرز بوضوح شديد في المملكة المتحدة، إذ لا تزال محطات وقود كثيرة مغلقة، وتزيل مطاعم أطباقاً من قوائم الطعام الخاصة بها، وتنتشر فراغات في رفوف محال السوبرماركت.
وكذلك يحدث الأمر نفسه في الولايات المتحدة. فقد نشرت "نيويورك تايمز" الشهر الماضي عموداً حمل عنوان "خبر جيد. هناك نقص في العمالة".
وتحتاج ألمانيا إلى 400 ألف عامل ماهر إضافي كل سنة، وفق رئيس "وكالة التوظيف الفيدرالية"، ديتلف شيل، وتشهد فرنسا نقصاً في سائقي الشاحنات يتراوح بين 40 ألفاً و50 ألف سائق، وفق رئيس الوزراء، جان كاستيكس. وعانت إيطاليا في حصاد محاصيلها من الفواكه هذا الصيف، في حين أصاب النقص في العاملين أيضاً الأعضاء الآخرين في "مجموعة البلدان السبع الصناعية الكبرى"، واليابان وكندا.
وتعد البطالة الوجه الآخر للنواقص في العمالة. وفي ما يخص المملكة المتحدة، سرى توقع بحدوث قفزة في البطالة فور انتهاء العمل ببرنامج الإجازات المدفوعة، لكن لا يبدو أن ذلك يحدث. وثمة أرقام جديدة، الثلاثاء الماضي، لكن بيانات سابقة عليها تبين أن معدل البطالة يساوي 4.6 في المئة. وفي المقابل، سجل المعدل نفسه أربعة في المئة قبل أن تضرب الجائحة البلاد، لكن المعدل الأحدث يقل عنه في الفصل السابق بواقع 0.3 في المئة. ومجدداً، يبدو أن النمط نفسه يبرز إلى حد كبير في بلدان أخرى. وهكذا، سجل أحدث معدل للبطالة في الولايات المتحدة 4.8 في المئة، وذلك مستوى قريب جداً من نظيره في المملكة المتحدة.
إذاً، ما الذي يجري؟ لقد ولد التعطل الناجم عن الجائحة طلباً أكبر على بعض أنواع الوظائف، لكنه خفض الطلب على أنواع أخرى. إذاً، ثمة خلل في التطابق. في المقابل، يبدو أن ما يجري يشكل شيئاً أكثر ديمومة، بل إنه تبدل على صعيد العلاقة بين العاملين وأصحاب العمل. فقد تبدلت السلطة في شكل جذري ودائم. وستبقى أسواق العمل ضيقة طيلة سنوات مقبلة، وستظل معدلات البطالة متدنية عند مستويات غير مسبوقة طوال نصف قرن أو أكثر.
في الأشهر الثلاثة الأخيرة من 2019، سجل معدل البطالة البريطاني 3.8 في المئة. إنه أدنى مستوى منذ نهاية 1974، وأدنى من أي مستوى شهده معظم الناس في أي مرحلة من مراحل حياتهم العملية. من جهة أخرى، في عودة إلى مراحل سابقة، إلى الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، يتبين أن معدلات البطالة تراوحت بين اثنين وثلاثة في المئة.
وفي ضوء مجموعة المجتمعات التي تتقدم في السن، ليس في العالم المتقدم وحده، بل كذلك في الصين، قد تصبح تلك المعدلات مجدداً الوضع الطبيعي الجديد.
ولو صح الأمر، وأعتقد أنه يصح، سيغير هذا التحول الجذري في السلطة كل شيء، إذ سيرفع الرواتب، ونحن نرى ذلك بالفعل. ويكمن بالتأكيد الخطر المتمثل في عودة العالم إلى دوامة الأجور/ التكاليف التي انطلقت في السبعينيات من القرن العشرين، وأدت إلى تضخم فاق 10 في المئة قضت عليه في نهاية المطاف معدلات مرتفعة جداً للفائدة. فلنأمل بألا يحدث ذلك، لكن في أي حال ستحصل تغييرات كثيرة أخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بدايةً، سيكون على أصحاب العمل العثور على طرق تجعل الوظائف أكثر جاذبية، ولا يقتصر ذلك على دفع رواتب أعلى إلى العاملين. ومن الأمثلة الواضحة، تطبيق شروط عمل أكثر مرونة. ومن الأمثلة الأخرى التطوير المهني الحقيقي، وليس فقط التدريب الأساسي على كيفية النهوض بالمهمات الحالية. وستتعزز المزايا الإضافية كالمساعدة في الحصول على أماكن للإقامة. وباختصار، سيسعى أصحاب العمل إلى كل أنواع الطرق غير المالية بغية جذب العاملين والاحتفاظ بهم، مع محاولتهم إبقاء تكاليفهم متدنية.
وسيحاولون أيضاً بناء الولاء. وسيصبح التوظيف تفاعلياً، أو سيبدو كذلك على الأقل. وستتراجع ثقافة التوظيف والصرف، ويعود السبب ببساطة إلى أن صاحب العمل إذا صرف موظفاً سيعاني في توظيف شخص آخر في الوظيفة نفسها. وسيتراجع ربما التعهيد الخارجي [بمعنى تكليف أطراف خارجية أداء أجزاء من الأعمال]، على الرغم من أن هذا ليس واضحاً، إذ تعتمد جوانب كثيرة منه على التكاليف المقارنة [الفارق بين تكلفة أداء العمل داخل المؤسسة أو البلد، وتكلفة إنجازها في الخارج]، لكنني أشتبه في أن أفضليات التعهيد الخارجي على صعيد التكاليف ستميل إلى التراجع.
ومن غير الواضح أيضاً إذا كان الانتقال إلى اقتصاد العمل المؤقت سيتسع أم سيتقلص. فقد يناسب الشركات أن تعيد تنظيم شروط العمل المؤقت الذي يعتبر أن الموظف يعمل لحسابه الخاص وضمن دوام جزئي. واستطراداً، لن يعود السبب إلى أن التنظيمات ستشدد، وهذا ما يحصل في مختلف أنحاء أوروبا، بقدر ما سيتأتى من أن أعمال الشركات تنجح أكثر بوجود قوة عاملة أكثر استقراراً. ويبدو ذلك معقولاً في الأقل على ضوء وصول اقتصاد العمل المؤقت إلى مرحلة الذروة.
في سياق متصل، سيحدث التغيير الأهم في أجواء العمل. وبصراحة، حين تكون الوظائف نادرة، يستغل أصحاب العمل في كثير من الأحيان الوضع ويعاملون الموظفين بشكل سيء. وإذا غدا اجتذاب الموظفين صعباً، يتوجب على أصحاب العمل تحسين سلوكهم. وبالطبع، في مقدور العاملين التصرف في شكل سيئ أيضاً، لكن ربما يمكننا أن نأمل في الانتقال إلى علاقة أكثر كياسة في مكان العمل، مع تعود الجميع على العلاقة الجديدة.
وفي المحصلة، لن يحدث أي من تلك الأمور فجأة. فمن المرجح أن أمامنا سنتين من التعطل الاقتصادي، ثم سيمر بعدهما عقد أو أكثر حتى تستقر الممارسات العملية الجديدة، ثم ستقع صدمة أخرى ما وتغير كل شيء مجدداً. في المقابل، إن الفكرة البارزة في ذلك الصدد تتمثل في أن عالم ما بعد "كوفيد" سيكون مختلفاً جداً عن عالم ما قبل "كوفيد". اعتادت الأزمنة على أن تتغير بالفعل. والآن، ندفع جميعاً إلى أزمنة جديدة ومختلفة.
© The Independent