بعد رفض متواصل من قبل الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير شعب تيغراي الجلوس إلى طاولة التفاوض على وقف إطلاق النار الذي طرحه الوسطاء الدوليون، بمن فيهم الولايات المتحدة والاتحاد الأفريقي للسماح بدخول المساعدات الإنسانية الدولية إلى إقليم تيغراي، انسحب رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد معلناً انتهاء الجولة الأولى من المعركة.
وأعلنت جبهة تحرير تيغراي انسحابها من المناطق المحيطة بالعاصمة أديس أبابا في منطقتي أمهرة وعفر، في خطوة عدت إيجابية إذا ما تواصل الانسحاب باتجاه وقف محتمل لإطلاق النار، بعد ما يزيد على العام من المعارك التي خاضتها القوات الفيدرالية ضد قوات تيغراي، وتسببت في خسائر كبيرة بالأرواح، وحرمان السكان من وصول المساعدات الإنسانية الدولية.
لذلك ذكرت جبهة تيغراي أن هذه الخطوة هي بغرض إجبار المجتمع الدولي على ضمان دخول المساعدات الغذائية إلى إقليم تيغراي، وحتى لا يتخذ الوضع هناك ذريعة لعدم إنقاذ السكان.
وقبل أن يتجسد رد فعل المجتمع الدولي في خطوات عملية نحو حل الأزمة، قامت القوات الإثيوبية في منطقة أمهرة بالسيطرة على مدينة ألاماتا جنوب تيغراي.
معارضة مستمرة
جاء انسحاب قوات تيغراي بعد انسحاب القوات الفيدرالية بإعلان آبي أحمد مغادرته ميدان القتال، وانتهاء ما سماه الجولة الأولى من المعركة. ونال آبي بذلك استحساناً دولياً صور قراره وكأنه الأقرب لمطلب جبهة تيغراي، مما أثر على وجود قوات الجبهة في الميدان.
ومن ناحية أخرى لم يفسر على أنه استسلام بعكس تفسير انسحاب قوات تيغراي الذي أتى لاحقاً، إذ شككت متحدثة رئيس الوزراء آبي أحمد بيلين سيوم في دوافع جبهة تحرير تيغراي، بينما أكدت التزام حكومتها في ما يتعلق بضمان أن يتم ذلك بطريقة سلمية من خلال الوسائل السياسية.
لم يهدر زعيم جبهة تحرير شعب تيغراي دبرصيون جبر ميكائيل الفرصة، إذ سارع بتوجيه رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، يدعو فيها المنظمة إلى الوفاء بشروط معينة، منها حظر طيران القوات الفيدرالية وتشكيل آلية تابعة للأمم المتحدة للتحقق من انسحاب الميليشيات المسلحة من إقليم تيغراي، وفرض حظر أسلحة على إثيوبيا وحليفتها إريتريا، على إثر استعانة آبي أحمد بالقوات الإريترية.
ومن ضمن مطالب إعادة الثقة أيضاً إطلاق آلاف السجناء السياسيين من التيغراي الذين احتجزتهم الحكومة، والتحقيق الدولي مع المسؤولين الحكوميين عن جرائم الحرب.
وكانت الأمم المتحدة وافقت الأسبوع الماضي، بعد تصويت مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، على إجراء تحقيق مستقل في انتهاكات حقوق الإنسان في إثيوبيا، وإرسال محققين دوليين وسط معارضة شديدة من الحكومة الإثيوبية، مواصلة معارضتها السابقة للمبادرات الدولية والإقليمية الأخرى للوساطة.
نقطة الصفر
نجح آبي أحمد في إعادة قوات تيغراي إلى مربع التوتر الداخلي المحدود في الإقليم باستخدام التسويغ الوطني للانسحاب، ثم العودة مرة أخرى للسيطرة على مدينة ألاماتا.
وبالنظر إلى محطات ما قبل التصعيد نجد أن توزيع العمليات جرى على منحنيات التحول العسكري من نقطة إلى أخرى، موزعة على فترات زمنية متتالية، ففي يوليو (تموز) الماضي دخلت قوات تيغراي منطقتي أمهرة وعفر إثر انسحاب الجيش الإثيوبي من تيغراي وإعلان الحكومة الإثيوبية وقف إطلاق النار من جانب واحد في يونيو (حزيران).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ورافق ذلك احتجاج الحكومة بعد مجابهتها باتهامات دولية بضلوع قواتها في عمليات قتل للمدنيين واغتصاب جماعي وعرقلة وصول المساعدات حين كانت الحرب داخلية في إقليم تيغراي، وشملت الاتهامات ارتكاب فظائع واسعة النطاق من قوات تيغراي أيضاً، ثم تطور الأمر بشن الجيش الإثيوبي هجوماً في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني)، مما دفع قوات تيغراي إلى التراجع مئات الكيلومترات.
وكانت جبهة تيغراي رفضت من قبل الانسحاب من أمهرة وعفر، مشترطة إنهاء الحكومة الإثيوبية لما وصفته الجبهة بأنه حصار بعد شكوى العاملين في مجال الإغاثة من عقبات أمنية وبيروقراطية وضعتها الحكومة لعرقلة الوصول إلى الإقليم.
وعلى الرغم من أن الحكومة الإثيوبية قالت إنها حاكمت جنوداً وأفراداً ضالعين في عمليات القتل والاغتصاب، فإنها لم تقدم تفاصيل عن المحاكمات، كما أنها نفت منع المساعدات.
وكان رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد قد استخدم سلاح الجو مما قاد إلى كسبه الجولة الأخيرة في المعركة، كما ساعده في ذلك سحب الجنود الإثيوبيين من الصومال للمشاركة في القتال، وما راج أخيراً عن تسلم إثيوبيا طائرات مسيرة من تركيا، والمثير للاهتمام أن مسؤولين إثيوبيين شكوا من قبل تدفق أسلحة تركية عبر شبكات تهريب إلى الداخل الإثيوبي.
مسؤولية المجتمع الدولي
هذه التطورات على الرغم من خسارة قوات تيغراي التدريجية أمام القوات الفيدرالية، فإن هناك ما يرجح أن إعلان جبهة تيغراي الخطوة قد يكون لتحقيق هدفين، الأول التراجع التكتيكي لكسب الوقت وإعادة التسلح بعد تشتيت قواتها من عدة جهات، لكن هذه النقطة يضعفها حجم الخسائر التي منيت بها بعد استخدامها "الموجات البشرية" بحشد قوات المشاة وسد الطرق الاستراتيجية التي تربط الداخل الإثيوبي بميناء جيبوتي، مما أسفر عن خسائر بشرية، ولم يؤد إلى اختراق القوات الحكومية التي غيرت تكتيكها إلى الجو.
أما الهدف الآخر فهو وضع المجتمع الدولي، الذي اشترط هذا التراجع، أمام مسؤولية مباشرة بالتدخل، وتحميله نتائج ما قد يحدث من تطورات، وهذه الخطوة تتوافق مع لعبة "صيغة المساومة"، وهي ليست في حسابات جبهة تيغراي وحدها، إنما ستمكن آبي أحمد أيضاً من تجميع قواته واختيار الطريقة المُثلى للرد، فالحرب أخذت طابعاً مختلفاً عند النظر إلى صورته، باعتباره صانع سلام حاصل على جائزة نوبل عام 2019، لوضعه حداً للحرب مع إرتيريا بتوقيع اتفاق سلام ومصالحة، وكذلك كقائد للتنمية في إثيوبيا، فكان لا بد من اتخاذه خط رجعة أسهم في سلكه له اتهام قواته بارتكاب انتهاكات في ميدان القتال، ودعمها بمضيه قدماً في ذلك الاتجاه بإغلاق المدارس والجامعات لدعم المجهود الحربي.
ويقول زعيم جبهة تيغراي إن الكرة الآن في ملعب المجتمع الدولي، متوقعاً إظهار فشله في الدفاع عنهم، وإلى الآن فإن إعراب الولايات المتحدة عن أملها بأن يؤدي الانسحاب الذي أعلنته تيغراي إلى فتح الباب أمام الدبلوماسية ووضع حد للنزاع في البلاد لا يزال باهتاً، وربما يظل متردداً بسبب رفض الحكومة الإثيوبية هذا التدخل.
من ناحيتها ستكون الأمم المتحدة ومنظماتها أمام مسؤولية كبيرة عن 60 ألف لاجئ من تيغراي في السودان، ونحو 400 ألف يواجهون المجاعة في الإقليم، ونحو 9.4 مليون شخص يحتاجون إلى المساعدات، خصوصاً مع دخول فصل الشتاء.
مسرح تيغراي
عند النظر من زاوية مختلفة إلى ما حققته القوات الفيدرالية، قد لا يُعد ذلك نصراً عسكرياً كاملاً، لكن الحكومة نجحت في تحويله إلى نصر سياسي، لذلك سيكون تركيز جبهة تيغراي على إقليمها أكثر من التوسع نحو مناطق أخرى.
ومن وجهة النظر هذه يبدو أنه سينشأ واقع جديد من معطيات قديمة على مسرح إقليم تيغراي، بسبب المراوغة عند الطرفين بواسطة التمويه أو الإسراع إلى نشر القوات، التي تعززها بشكل متكافئ الإمكانات البشرية لدى الطرفين.
وهذا الواقع تعززه أربع قضايا، الأولى فشل مشروع آبي أحمد السياسي الذي صممه لإزالة التناقضات الإثنية وتحقيق شعارات الوحدة والعدالة والرخاء وحل النزاعات الداخلية والخارجية، والقضية الثانية هي تقرير المصير، خصوصاً مع ارتباك المشهد الإثيوبي أمنياً وسياسياً، وما قضية تيغراي إلا واحدة فقط من النزاعات الانفصالية العديدة المتجددة، والتوترات في بعض الأقاليم الإثيوبية الأخرى، لكنها تقدمت إلى الواجهة وأصبحت عنوان المعارك في إثيوبيا منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، وطغت على قضايا الأقاليم الأخرى.
والقضية الثالثة هي المواجهة التي أصبحت حتمية بين الإثنيات المختلفة، خصوصاً إثنيتي تيغراي وأمهرة، في ظل تمسك أمهرة بمساحة الأرض التي تعادل ربع إقليم تيغراي كحق تاريخي لهم، بينما تقول إثنية تيغراي إن الأمهرة طردوا منها التيغراي واستولوا عليها بوضع اليد.
أما القضية الرابعة، فهي تركيبة قوات جبهة تيغراي التي تتكون من جنرالات سابقين في الجيش الإثيوبي خلال الفترة الطويلة التي حكمت فيها تيغراي إثيوبيا منذ عام 1991 إلى 2018، ثم تقاعدوا أو انشقوا منه ليصبحوا قادة الجبهة.
هذه الخبرات في الجيش الذي كان يوصف بأنه أحد أقوى الجيوش الأفريقية، ستعطيهم حافزاً قوياً لمواصلة القتال حتى تحقيق مطالبهم.
ومهما يكن من أمر، فإن استناد جبهة تيغراي إلى التحالف الذي يضم تسع فصائل تقاتل معها وتنادي كلها بالفيدرالية، قد يوازن معركتها مع الحكومة، لكن بعد انتصار تيغراي سينشأ صراع بين هذه القوميات على السلطة التي تناضل جبهة تيغراي من أجل استعادتها، لكن سيعود معها التاريخ الدموي لسيطرتها على الحكم.