لم يعُد محل نقاش أن فئة من البشر لا تريد الحصول على لقاح كورونا، وهذا النوع من الناس موجود في كل المجتمعات، ويشكلون مشكلة كبيرة للحكومات التي تريد لمواطنيها أن يتحصّنوا ليس بلقاح واحد فقط، بل وباثنين. والآن باتت الجرعة الثالثة إجبارية أيضاً في دول كثيرة.
مشكلة السلطات الصحية والسياسية تتفرع إلى فرعين، الأول يتعلق بموضوع الحرية الفردية، إذ يمتلك الفرد جسده، وله حرية القرار بقبول إدخال أي شيء إليه، والثانية تتعلق بتفكيك الأسباب التي تدفع البعض إلى رفض اللقاح.
أسباب مختلفة كلها شائك
بعض الأسباب قد يكون ثقافياً دينياً، وبعضها سياسي قائم على الرفض لمجمل قرارات الحكومة سواء في ما يتعلق بالوباء أو بغيره من القواعد الملزمة والإجبارية. والأكثر تأثيراً هي الأسباب "المؤامراتية" التي يملك أصحابها صوتاً مرتفعاً في وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، ويمكنهم التأثير بآراء فئات كثيرة، على رأسها المراهقين، تحت راية أن هذا الفيروس جرى خلقه في مختبر عن قصد، وأن اللقاحات ما هي إلا استكمال لخطة عالمية تهدف إلى التأثير في أفكار الناس ومراقبتهم، وتحويلهم إلى أدوات طيّعة في يد صانعي "المؤامرة".
أسباب كثيرة يغذيها الشك والقلق والحرية الشخصية تؤدي بكثيرين إلى رفض اللقاح، فكيف يتم التعامل معها حول العالم؟
الجيش الأميركي مثالاً
بداية، لا بد من الإشارة إلى أنه وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، يُعدّ التردد في تلقّي اللقاحات أحد أول التهديدات العشرة الرئيسة للصحة العالمية. وللوقوف حول أسباب هذا التردد، ننطلق في البحث من كيفية تعامل الجيش الأميركي مع الضباط والجنود الذين يرفضون التطعيم.
جاء في مقالة نشرت في 15 سبتمبر (أيلول) 2021 في موقع الجيش الأميركي بقلم ستيف بينون أن عقوبة التسريح ستكون مفروضة على القوات العسكرية، بخاصة كبار القادة الذين يرفضون بإصرار التلقيح. ويضيف أن الجيش أعطى مدة طويلة للجنود كي يحصلوا على التحصين، وكأنه يؤخر الوصول إلى المشكلة أي رفض ضباط وجنود اللقاح.
وكتبت كريستينا موندي، متحدثة مكتب الحرس الوطني في الجيش الأميركي، "نظراً إلى حجم ونطاق وانتشار قوات الحرس الوطني باختلاف وظائفهم، فإننا نتفهم أن الأمر سيستغرق وقتاً إضافياً لتطوير خطة تكون أكثر جدوى لتطعيم أفراد قواتنا العسكرية بشكل كامل".
وفي كل الأحوال، فإن وزير الدفاع لويد أوستن أعطى أوامر تفيد بأن التلقيح إلزامي، وأن هذا المطلب يُعتبر أمراً قانونياً ملزماً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تبدأ العقوبات بالإجراءات الإدارية عبر مذكرة توبيخ الضابط العام، ويُعتبر هذا التوبيخ نقطة سوداء في ملف الضباط، ويحاول الجميع عدم الحصول عليه. أما الجنود الذين اتخذوا قرارهم لأسباب طبية أو دينية، فلن يتعرّضوا لأي عقوبة بعد التدقيق في أسبابهم الموجبة لرفض التطعيم.
أما رافضو اللقاح من دون سبب موجب، فسيُفصلون بلا تردد. وبخصوص الجنديات الحوامل، فيمكنهن طلب تأجيل تلقّيهن الطعم إلى ما بعد الحمل، لكن وثائق الجيش تشير إلى أن "الحصول على لقاح يمكن أن يساعد الأم والجنين في تجنّب الإصابة".
وفقاً لتقرير حديث صادر عن صندوق النقد الدولي، يتراوح عدد رافضي التحصين بين 10 - 20 في المئة في المملكة المتحدة إلى نحو 50 في المئة في اليابان و60 في المئة في فرنسا.
ولا بد من أن هذه الأعداد الكبيرة من رافضي اللقاح خلقت حرباً من النقاشات على وسائل التواصل الاجتماعي. وخلال مراقبة هذه النقاشات، رفض علماء نفس وفي علوم الطب الاجتماعي وصف رافضي اللقاح بأنهم "جهلة وأنانيون"، لأن خياراتهم غالباً ما تكون نتيجة لعوامل معقدة يجب معالجتها بحساسية. فالهدف هو إقناع الرافضين القلقين والخائفين بتناول اللقاح، لا استبعادهم أو استعدائهم في حال كانت الوجهة النهائية هي تحصين ما لا يقل عن 90 في المئة من سكان الأرض.
يقول محمد رزاي، في تحقيق لـ "بي بي سي" الإنجليزية، وهو باحث في معهد أبحاث صحة السكان في جامعة لندن، إن الغالبية العظمى من الأشخاص المترددين في الحصول على اللقاح "ليست لديهم أجندة سياسية، وليسوا ملتزمين قضية مناهضة للعلم، بل هم ببساطة مترددون في اتخاذ القرار، أي هل يأخذونه أو لا، من دون أن يكون هناك سبب محدد يمنعهم من ذلك".
اتجاهات نفسية للقبول والرفض
أما هذه البساطة في تحليل الموضوع، فتعود إلى قاعدة أساسية في علم النفس بأن لدى البشر اتجاهين متناقضين تجاه أي أمر يجب اتخاذ قرار مهم بشأنه، "التحيز السلبي" و"الانحياز للتفاؤل" اللذان يؤديان إلى انحراف تقييم الناس للمخاطر والفوائد.
ويتعلق "التحيز السلبي" بالطريقة التي نقيّم بها الأحداث الخارجة عن إرادتنا، فأي معلومة سلبية تُقدّم لنا حتى لو كانت غير صحيحة، فإنها تبقى عالقة في أذهاننا. وهذا في ما يتعلق بالرأي العام.
أما على الصعيد الفردي، فإن "التحيز التفاؤلي" سببه أن الشخص يعتقد بأنه ذو صحة جيدة ومناعة قوية، لأنه يمارس الرياضة، ويأكل طعاماً صحياً وما إلى ذلك، وهو ما يشعره بأنه بعيد من الإصابة، لذا يتخلى عن الوقاية، أو يدفع الآخرين إلى التخفيف من حدة وتأثير الفيروس بل والسخرية منه.
وهناك نوع من "التحيز المضاد" الذي ينشأ من الحصول على المعلومات من مصادر غير موثوقة أو مضللة، وتبيّن أن النسبة الكبيرة من الباحثين عن هذا الموضوع عبر الإنترنت هم الأكثر تردداً، خصوصاً أن طريقة طرحهم للسؤال يؤدي بهم إلى معلومات مضللة جديدة، من قبيل: هل اللقاح مضر، خطير، حقيقي؟، فعند تلقّي إجابة عن هذه الأسئلة، فإن إعادة طرح السؤال مرة ثانية ستعطي إجابات في غالبيتها مضللة، ما يزيد في شكوك المترددين. والطامة الكبرى هي في عدم إيجاد أجوبة شافية لطارحيها، مما يعقّد ترددهم ويعمقه.
يكتب الباحثان روس جي مينزيس، أستاذ كلية الدراسات العليا للصحة في جامعة التكنولوجيا الأسترالية وراشيل إي مينزيس، باحثة ما بعد الدكتوراه، على الرغم من أن التطعيمات تنقذ الأرواح منذ تطوير لقاح الجدري قبل أكثر من 200 عام، ومع ذلك ما زال هناك خوف كبير من اللقاحات، التي كي تعمل، لا بد من تطعيم مجتمعات بأكملها.
ويضيفان، "بصفتنا علماء نفس إكلينيكيين يدرسون القلق والتجنب والإنكار، نعتقد أن أحد العوامل الرئيسة هو الخوف، وعلى وجه التحديد الخوف من الموت".
الخوف من الموت
في بحثهما النفسي، يقول العالمان الأستراليان إن مئات الدراسات في مختبرات علم النفس الاجتماعي أظهرت أن التذكير الخفي بالموت المعروف باسم الموت الأولي" يقود المشاركين إلى الدفاع بقوة عن معتقداتهم الدينية والثقافية وعن حرياتهم. فعند تذكيرهم بالموت، يُظهر المشاركون مشاعر عدوانية تجاه أولئك الذين لديهم أيديولوجيات سياسية أو دينية مختلفة، "تشبثنا بصواب أفكارنا ومعتقداتنا يساعدنا في تهدئة رعبنا من الموت".
مثال على ذلك، في مدرسة اللاهوت بجامعة شيكاغو ردد نصف المشاركين عبارة "ربي سيحميني من الإصابة". وتكرر الأمر في مناطق مختلفة من العالم حين دعا شيعة العراق مثلاً في المراكز الدينية الأساسية إلى عدم ارتداء الكمامات، لأن أصحاب المقامات سيحمون الزوار، والأمر ذاته في لبنان حين دعا بعض المؤمنين إلى الأكل من التراب في مقام أحد القديسين المطوبين كنسياً، بل وأهدوا محلولاً من هذا التراب إلى أحد المستشفيات الحكومية التي قدمتها لمرضاها من المؤمنين والمقتنعين بقوة هذا التراب الروحية والصحية. أما في المجتمعات المغلقة والعشائرية والزراعية، فاتبعت معتقدات كثيرة كاستخدام أنواع من الأعشاب للشفاء من فيروس كورونا.
تذكير الناس بالموت يقودهم إلى الدفاع بقوة عن قيمهم ومعتقداتهم. وفي سياق كورونا نصبح أكثر فردية، بالتالي أكثر ارتياباً بالعلم أو بالقرارات الحكومية، بالتالي أكثر ثقة بقدرة الآلهة على حمايتنا، خصوصاً أن أعداد الوفيات اليومية تبقى بمثابة منبّه يذكّر بحلول الموت وبانتظام، وهذا ما تنتج منه سلوكيات رافضة للقاح، ويتحوّل هذا الرفض إلى مشترك جماعي، وتنتج منه تظاهرات عنيفة في بعض المجتمعات، وكذلك دعوات تعتقد أنها تستند إلى مؤشرات صحيحة حول المؤامرة العالمية، وهذا النوع من الأفكار يصبح قادراً على الانتشار بسرعة لا يمكن الوقوف بوجهها بسهولة.
نتائج توافر الإجابات أو عدم توافرها
عالمة النفس جينيفيف بوليو من جامعة كيبيك في مونتريال ترى أن العائق الأول هو عدم فهم ماهية اللقاح أو سوء فهم ضرورة التطعيم. فعدم العثور على إجابات من مثل: لماذا يصاب الحاصل على التلقيح مرة جديدة؟ أو هل اللقاح يؤدي إلى عدم الإصابة نهائياً؟ أو هل يمكن للقاح أن يظهر أي ردود فعل جسدية أو عقلية أو في النمو بعد مدة من الزمن؟
عدم العثور على إجابات مرضية لهذه الأسئلة يمكن أن يشلّ تفكير الشخص، ويقلل من استعداده لتلقي اللقاح. وبرأي الباحثة الكندية، هناك حاجز نفسي آخر يأتي من الشعور بالعجز والإحباط استجابة لاحتمال استمرار الوباء، خصوصاً بالنظر إلى اكتشاف متغيرات جديدة، وهذا ما يُسمّى بـ"الإرهاق الوبائي" أي الشعور بالضجر والإحباط الذي ينشأ خلال الأزمة عندما يبدو أن الأحداث تتكرر.
ثم هناك الإنكار وهو ردّ فعل تلقائي غير واعٍ يعمل بمثابة إسعافات أولية للسيطرة على القلق. في سياق الوباء، يمكن التعبير عن ذلك بإنكار خطورة المرض، أو إنكار تعرّض المرء للإصابة بالوباء، أو حتى إنكار وجود الفيروس بعينه. ثم يأتي دور الأشخاص المستبعدين اجتماعياً أو الذين يستبعدون أنفسهم عن المجتمع أو حركة النظام الاجتماعي العام الذي يسمّونه بـ"السيستم"، وهؤلاء عموماً يرفضون الدخول في الموجة العامة أو في اقتراحات الحكومات التي تطال الجميع، فغالباً ما يعتبرون الأمر فرضاً وإجبارياً، ويحدّ من حرياتهم أو يلزمهم اتباع ما يرفضونه أساساً بوجود وباء أو بعدم وجوده.
وهؤلاء غالباً ما يكونون مؤثرين في الدعاية لأفكارهم، لأنهم يبنونها على أسس متينة من المحاججات والأمثلة والقصص المتداولة والفيديو والتقارير المستلّة من باحثين مشككين بدورهم، التي يكون معظمها مختلقاً أو ملفقاً.
وهذه التراكمات للمعلومات المضللة تتحوّل تلقائياً إلى أزمة ثقة بتوصيات الصحة العامة أو بأي نوع من التوصيات الموجهة إلى المواطنين، ويأتي على رأسها أخذ اللقاح، لأن تلقّيه أمر لا يمكن العودة عنه حين يحصل، ما يزيد في التردد أساساً.