مع إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن الاتفاق على التفاوض مع الولايات المتحدة و"الناتو" بشأن أزمة أوكرانيا والضمانات التي تطلبها روسيا لعدم تمدد الحلف شرقاً، تبرز تساؤلات حول ما يمكن أن تقدمه واشنطن وبروكسل من تنازلات تحقق مطالب بوتين، فبينما يرى البعض في واشنطن أنه يمكن تجنب الحرب في أوكرانيا من خلال تقديم ضمانات مؤقتة تؤجل انضمام أوكرانيا المحتمل إلى "الناتو"، يرفض آخرون الرضوخ لبوتين ويرون صعوبة في الاستجابة إلى مطالبه بسحب أي وجود عسكري للقوات الأميركية في الدول التي انضمت للحلف بعد 1997، فإلى أي مدى يمكن أن يحقق بوتين أهدافه، وهل ابتعد شبح الحرب في أوكرانيا أم لا يزال ماثلاً؟
تهدئة مؤقتة أم ذريعة للحرب؟
على الرغم من أن بوتين، مُنح فرصتين خلال مؤتمر صحافي عقده الخميس، 23 ديسمبر (كانون الأول)، ليقول بشكل قاطع، إن روسيا لن تغزو أوكرانيا، فقد فضل تحميل الغرب مسؤولية التوترات مع الجارة السوفياتية السابقة، محاولاً إقناع الروس أن تحول كييف باتجاه الغرب يمثل تهديداً أمنياً لموسكو قد يبرر العمل العسكري، وليطالب بدلاً من ذلك بضمانات من حلف "الناتو" أنه لن يتوسع شرقاً.
ومع ذلك، تعد النغمة التي تحدث بها الرئيس الروسي، أقل عدوانية من تصريحات سابقة حذر فيها من أن بلاده سترد بقسوة على الخطوات غير الودية، مشيراً إلى تزويد الولايات المتحدة أوكرانيا بأسلحة فتاكة، وإجراء مناورات عسكرية استفزازية في البحر الأسود وتحليق قاذفات استراتيجية على بعد 12 ميلاً فقط من حدود روسيا، كما أبدى انزعاجاً من نشر أنظمة دفاع صاروخي في أوكرانيا على غرار تلك الموجودة في رومانيا وبولندا، مدعياً أنها يمكن أن تكون أسلحة هجومية سرية قادرة على الوصول إلى موسكو في غضون 10 دقائق.
لكن وصف بوتين رد واشنطن على مقترحات موسكو بأنها إيجابية، والإعلان عن ترتيب المفاوضات بين الجانبين في جنيف خلال يناير (كانون الثاني) المقبل، لم يكن كافياً لتهدئة المخاوف الغربية من أنه يعد العدة لغزو أوكرانيا عبر تقديمه مطالب مستحيلة يعلم جيداً أن إدارة الرئيس جو بايدن وحلف "الناتو" سيرفضانها، وبالتالي يخلق ذريعة لإشعال الحرب، بخاصة مع تأكيد كثيرين من المحللين الغربيين أن بوتين يشعر أنه في مهمة تاريخية لوقف انجراف أوكرانيا نحو الغرب، وأن الوتيرة السريعة التي يتحرك بها حالياً تكشف عن اعتقاده بأن لحظة الهجوم هي الآن، بعد نفاد صبر موسكو على تصرفات الحكومة في كييف.
نظرة متشائمة
بالنسبة لتيار من المحللين السياسيين في واشنطن، فإن توقعاتهم تبدو متشائمة إزاء تحركات بوتين، ويعتبر هؤلاء أن الكرملين توصل إلى استنتاج أن الأمور في أوكرانيا تسير في طريق هزيمة موسكو الجيوسياسية، وبحسب صموئيل شاراب، كبير المحللين السياسيين في مؤسسة "راند" الأميركية، فإن خطة الكرملين بالانتظار حتى يفقد الأوكرانيون صبرهم مع حكومتهم ويفقد الغرب اهتمامه بأوكرانيا، لم تعد مناسبة الآن بعدما ابتعدت البلاد عن سيطرته، ولهذا أصبح الوضع الراهن لا يطاق بالنسبة للروس ويجب تغييره.
كما يعتبر آخرون أن تصريحات بوتين بأنه لا يريد الحرب هي مناورة، لأن الدبلوماسيين الروس سربوا اتصالاتهم مع نظرائهم الفرنسيين والألمان، ما أضعف بشكل أساس فرص إجراء مزيد من المفاوضات مع القوى الأوروبية، كما عبر بوتين عن اهتزاز ثقته في الرئيس بايدن وفي الاتفاقات الدولية للولايات المتحدة التي تنسحب بسهولة منها لسبب أو لآخر، الأمر الذي يترك خيار القوة العسكرية مفتوحاً أمام بوتين.
رئاسة بوتين
وعلاوة على ذلك، يبدو بوتين مستعداً لاستخدام حالة طارئة يمكن أن تحدد وضعه كزعيم لروسيا، فقد نشر هذا الصيف مقالاً باسمه من 6000 كلمة حول أوكرانيا، ويشير ألكسندر باونوف، الباحث في مركز "كارنيغي"، إلى أن ما ينجح بوتين في تحقيقه بأوكرانيا سيكون العامل الحاسم في بقاء بوتين في منصبه بعد عام 2024، وهذا ما يفسر تشدد بوتين في مطالبه من "الناتو" لإظهار أنه يعيد لروسيا أيام مجدها، وأنه قادر على الفعل وليس الكلام فقط، بحسب تحليل بعض المراقبين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويبدو أن رسائل بوتين نجحت داخلياً حتى الآن، وكشف استطلاع للرأي أجراه مركز "ليفادا" المستقل أن نصف الروس الذين شملهم الاستطلاع يحملون الولايات المتحدة ودول "الناتو" الأخرى مسؤولية التصعيد، ومع ذلك، فإن هناك القليل من الدعم الشعبي لاندلاع الحرب، بعدما سئم الناس فرض عقوبات جديدة عقب تحذير الولايات المتحدة من فرض عقوبات شاملة وغير مسبوقة، إذا اتخذت روسيا عملاً عسكرياً ضد أوكرانيا.
فرص نجاح التفاوض
ووفقاً لتقرير نشره معهد "بروكينغز" الأميركي، لا توحي الخطوة غير المألوفة التي اتبعتها وزارة الخارجية الروسية بنشر مسودة الاتفاقات المطروحة للتفاوض، ونشر الضمانات التي تطالب بها روسيا كلاً من الولايات المتحدة و"الناتو"، بوجود محاولة تفاوضية جادة، بخاصة وأن بعض عناصر المسودات ترفضها سلفاً القوى الغربية.
وعلى سبيل المثال، تريد موسكو التزام أعضاء "الناتو" بعدم توسيع الحلف شرقاً، وبخاصة أوكرانيا، لكن على الرغم من توافر القليل من الحماس داخل الحلف الآن لوضع أوكرانيا على مسار العضوية، فإن "الناتو" لن يغير سياسة الباب المفتوح التي اتبعها منذ فترة طويلة بشأن الدول الراغبة في الانضمام للحلف، كما أن ذلك سيتطلب الموافقة بالإجماع بين دول "الناتو" الـ30، وهو أمر من غير المحتمل أن يتم لأن روسيا لا يمكنها أن تملي سياسة "الناتو" بهذه الطريقة، ولكن إذا كانت روسيا راغبة في نزع فتيل الأزمة، فقد يساعد ذلك في إيجاد حل وسط ومؤقت لعدم ضم أوكرانيا إلى الحلف الآن، ولكنه قد لا يكون حلاً دائماً.
نشر قوات "الناتو"
وبينما تطالب فقرة أخرى في المسودة الروسية بألا ينشر "الناتو" أي قوات أو أسلحة في الدول التي انضمت إلى الحلف بعد مايو (أيار) 1997، وهو ما كان قائماً قبل 2014 إلا أن ذلك تغير بعد استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم، ونشر الحلف مجموعات قتالية صغيرة متعددة الجنسيات في دول البلطيق وبولندا، لذا سيكون من الصعب رؤية "الناتو" يوافق على سحبها في ظل غياب تغيير مهم في الموقف العسكري لروسيا.
وإحدى النقاط الأخرى الشائكة في المفاوضات التي يسعى الروس إليها هي تضمين حظر نشر الصواريخ متوسطة المدى في المناطق التي يمكن أن تصل فيها إلى أراضي الطرف الآخر، وهو بند كان سارياً بالطبع في معاهدة حظر الأسلحة النووية متوسطة المدى لعام 1987، لكن نشر روسيا لصاروخ "كروز" متوسط المدى من طراز "أم 9729" أدى إلى انهيار المعاهدة، فإذا تعهدت روسيا بأنها ستنزع هذه الصواريخ وتوافق على إجراءات تحقق مناسبة لأي اتفاقية جديدة قد يسهم في التوافق عليها مع الولايات المتحدة.
وينظر الأميركيون إلى الحظر المقترح في مسودة المعاهدة الروسية على أي نشاط عسكري لحلف "الناتو" في أوكرانيا أو أوروبا الشرقية أو القوقاز أو آسيا الوسطى على أنه بمثابة تجاوز، ولكن قد يكون من الممكن اتخاذ بعض الإجراءات للحد من التدريبات والأنشطة العسكرية على أساس المعاملة بالمثل ومن خلال تدابير لبناء الثقة والأمن.
خفض التصعيد
ويعتبر ستيفن بيفر الباحث المتخصص في الأمن والاستراتيجية ونزع السلاح، أن خفض التصعيد العسكري بالقرب من أوكرانيا من شأنه أن يساعد بشكل كبير في تهيئة الأجواء لمفاوضات مثمرة، لأن المسؤولين في الولايات المتحدة وحلف "الناتو" لن يرغبوا في المشاركة طالما أن روسيا تمثل تهديداً عسكرياً على كييف، كما ينبغي أن تشمل المفاوضات جميع الأطراف المتضررة، بما في ذلك أوكرانيا، إذ لا يمكن للولايات المتحدة وروسيا عقد صفقة فوق رؤساء الأوروبيين والأوكرانيين.
وعلى الرغم من أن مسؤولين في إدارة بايدن أكدوا لصحيفة "واشنطن بوست" أن هناك بعض الأشياء المقترحة في المسودة الروسية لن نوافق عليها أبداً، وأن الروس يعرفون ذلك، فإن هناك مجالات أخرى يمكن فيها استكشاف التوصل إلى حلول على أساس المعاملة بالمثل.
في المقابل يرى فيودور لوكيانوف، وهو محلل السياسة الخارجية الذي يقدم المشورة للكرملين، أن مطالب موسكو من حلف "الناتو" هي نقطة انطلاق لمفاوضات أعمق، إذ من المؤكد أن بعض النقاط ستكون غير قابلة للتطبيق عملياً، ولكن من خلال الدبلوماسية والمساومة يمكن أن نتوقع نوعاً ما أكبر من محاولة إجراء محادثة.
وفي كل الأحوال، ستكون هذه المفاوضات طويلة ومعقدة وشاقة، ولكن هذا العمل الذي يقوم به الدبلوماسيون، ولكي ينجحوا في مهمتهم، سيتطلب الأمر إشارات مختلفة عن تلك التي رآها الجميع خلال الأسابيع العديدة الماضية.