مشهد صادم أمام المصارف التجارية في لبنان... طوابير لا تنتهي، وتزاحم، وتدافع وتضارب، كل هذا نتيجة مباشرة لتمديد التعميم 161، الصادر عن مصرف لبنان، الذي يسمح للمودعين بتقاضي جزء من ودائعهم بالدولار الأميركي "الفريش". وما زاد الطين بلّة هو بدء موظفي القطاع العام المدني والعسكري قبض رواتبهم بالدولار وفق سعر منصة صيرفة 22200 ليرة لبنانية، وهي منصة مصرف لبنان التي توازي السوق الحرة للدولار عند الصرافين، والذي بلغ مستوى 27000 ليرة لبنانية مقابل الدولار الأميركي الواحد.
طال الانتظار في بعض المصارف إلى السادسة مساءً، وكل ذلك من أجل 50 أو 60 دولاراً، بحسب الملاءة والقدرة المالية للمصارف. ويستمر العمل بهذا التعميم الجديد حتى نهاية يناير (كانون الثاني) 2022، الذي يهدف إلى الحد من الارتفاع السريع لسعر صرف الدولار، وامتصاص السيولة النقدية الكبيرة في السوق اللبنانية.
صدمة الموظفين
لم يصدق كثير من الموظفين ما سمعوه، فاندفعوا إلى المصارف لقبض رواتبهم بالدولار "الفريش"، فيما تحفظ آخرون على النزول بسبب عدم احترام التباعد الاجتماعي والمخاطر الناتجة من تفشي جائحة كورونا والمتحورة "أوميكرون"، بالإضافة إلى ضآلة المبلغ الذي يمكن سحبه من المصارف، فيما وجدت فئة كبيرة نفسها على أبواب الميلاد من دون أي مبلغ. واحدة من هؤلاء الشابة رنا التي بلغتها رسالة نزول الراتب في الحساب بعد ظهر الخميس 23 ديسمبر (كانون الأول)، فما كان منها إلا أن قصدت البنك في البترون في الصباح الباكر من يوم الجمعة، لتتفاجأ بأنه مُقفل بسبب بدء عطلة الميلاد. حاولت بصورة مكررة السحب من الآلة، فلم تجد إلى المال سبيلاً. تشير إلى أنها ستضطر إلى تمضية عيد الميلاد مع ابنها وعائلتها من "حواضر البيت"، لأنها لن تتمكن من شراء الهدايا.
تعبر رنا عن سخطها مما بلغته الأمور في لبنان، "يعطوننا رواتبنا على منصة 22000، لنعود ونبيعه إلى الصراف لقاء 27000 ليرة للدولار، ونحقق فارق ربح لا يتجاوز 500 ألف ليرة، وهو في الحقيقة مبلغ ضئيل لا يشتري شيئاً في ظل الغلاء الفاحش".
في المقابل، رفض منير، وهو موظف في القطاع العام، الوقوف في الطابور من أجل استبدال راتبه لقاء دولارات قليلة. ويستنكر الذل الذي يوضع فيه اللبناني، مؤكداً أنه بلغ مستوى غير مسبوق من اليأس، والوقوف في طابور كهذا سيكون له أثر نفسي سلبي شديد.
طوابير السلطة العامة
يقرأ المتخصصون في الاقتصاد بسلبية ظاهرة الطوابير، فهي تشير إلى ندرة في الموارد، وأزمة ثقة في المؤسسات لدى الجمهور. ويتحدث أيمن عمر، أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية، عن "تفنن السلطات المسؤولة في اجتراح الإجراءات التي تزيد من معاناة اللبنانيين ومآسيهم والمس بكراماتهم، وآخرها التعميم رقم 161، الصارد عن مصرف لبنان وما نتج عنه من حالة هيستيرية على أبواب المصارف اللبنانية وإحياء طوابير الذل من جديد".
ويلفت عمر إلى وجود نوعين من الطوابير أمام أبواب المصارف وأبواب شركتي الهاتف الخلوي، مستذكراً ظاهرة بدء الطوابير في لبنان، التي "كانت دائماً مقدمة لرفع الدعم. حدث هذا أيام طوابير محطات المحروقات، وها هو يتجدد أمام شركتي الخلوي، وتسرب الكلام عن رفع سعر الصرف الرسمي من 1507.5 إلى 6000 أو 8000 ليرة لبنانية".
التعميم 161 في مواجهة الدولار
جاء التعميم 161 لمصرف لبنان في أعقاب تفلت الدولار، إذ وصل إلى مستوى تاريخي غير مسبوق عند حدود 29000 ليرة لبنانية، وهو إجراء يهدف إلى لجمه كما يدّعي المسؤولون. ويؤكد أيمن عمر أن "النقد المتداول بالليرة خارج مصرف لبنان يتراوح شهرياً بين 1.5 تريليون (ألف و500 مليار)، وتريليوني تقريباً في الفترة الماضية". ويفند عمر هذا الإجراء، "فإذا سلمنا جدلاً أنه يتم تداوله جميعه عبر المصارف، وهي التي يهدف مصرف لبنان إلى تقييدها وتحويلها إلى دولار، وإذا أخذنا الحد الأدنى لهذه السيولة النقدية، فهي تساوي، وفق سعر منصة صيرفة (الخميس 23 ديسمبر) 24000، نحو 62.5 مليون دولار"، مضيفاً، "تشير التقديرات إلى أن حاجة السوق اليومية إلى الدولار تتراوح بين 25 و30 مليون دولار (20 مليوناً على منصة صيرفة، والباقي في السوق الموازية)، أي بمتوسط شهري 750 مليون دولار".
من هذا الواقع، ينطلق عمر، ليسأل: "كيف لمبلغ 62.5 مليون الذي لا يشكل أكثر من 8.3 في المئة من حاجة السوق الشهرية أن يُلجم سعر الصرف؟".
يخلص عمر إلى أن "هذا التعميم لشراء الوقت، قد يعطي مفعوله، ولكن بشكل مؤقت، طالما لم توضع معالجات جذرية للأزمة ككل".
مساعدة أم تصحيح للأجور؟
يعتقد عمر أن من أهداف هذا التعميم "الحفاظ على القدرة الشرائية لموظفي القطاع العام، الذين يبلغ عددهم نحو 320 ألف موظف، وتبلغ تكلفة رواتبهم، بحسب الموازنة العامة، 5.069 ألف مليار ليرة سنوياً بمتوسط شهري 422.433 مليار، بما يوازي 17.6 مليون دولار على أساس سعر منصة صيرفة 24000".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكن، هل يعتبر هذا الإجراء بمثابة تصحيح للأجور؟ بالتأكيد لا، فبحسب عمر، فإن "الموظف الذي يبلغ راتبه مثلاً 2.4 مليون سيحصل على راتب قدره مئة دولار أميركي، بعد أن كان هذا الراتب يساوي نحو 1600 دولار، وانخفضت قدرته الشرائية إلى أكثر من 92 في المئة بفعل تدهور سعر الصرف". من هنا، يصفها بـعملية "ضحك على اللحى"، فهي لا تحسن من القدرة الشرائية للموظفين.
ويلفت عمر إلى ظاهرة يمكن تلمّسها فعلياً على أرض الواقع، وهي أن "معظم الموظفين، إن لم نقل جميعهم، سيحصلون على الدولارات، وفق سعر منصة صيرفة، ثم يقومون ببيعها في السوق الموازية، وفق سعر صرف أعلى، والحصول على فارق السعرين، بالتالي ما دفعه باليد اليمنى سيسترجعه باليسرى. مع العلم أن هذه العملية إذا ما تكررت أكثر من مرة قد تحدث تقارباً كبيراً بين سعر صرف المنصة وسعر السوق الموازية، بالتالي إعادة سيطرة مصرف لبنان على سوق الصرف لغياب تأثيره على السوق الموازية، مع اعترافه بشرعية الأخيرة".
استشراف المستقبل
في الربع الثاني من عام 2022، يفترض إجراء الانتخابات النيابية، وفق ما تنص المهل الدستورية. وليس من المعلوم إذا ما كان تأخير البدء تنفيذ البطاقة التمويلية مرتبطاً بهذه الانتخابات. ويتوقع عمر اشتداد الأزمة الاقتصادية من الآن حتى الربيع المقبل، ويتخوف من استغلال الظروف الخانقة لتطويع المواطنين لإعادة إنتاج السلطة السياسية القائمة. ويخشى تأخير الحلول الجذرية إلى أمد غير محدود، لأن لبنان لم يصل إلى بلورة رؤية واضحة مع صندوق النقد الدولي، "ما زلنا في إطار المفاوضات، وخطة الحكومة للتعافي لم تبصر النور، وما زالت ضمن التجاذب السياسي"، منبهاً إلى أنه "يجب عدم التعويل كثيراً على صندوق النقد الدولي من أجل التعافي، لأنه يقدم قروضاً وليس منحاً ومساعدات من دون مقابل سياسي، وقد يكون الثمن في ترسيم الحدود البحرية والتخلي عن الثروات".
البنوك تهدد بالإقفال
يوم الخميس، 23 ديسمبر، عقدت الجمعية العمومية لجمعية المصارف اجتماعاً استثنائياً، للتداول ببعض مشاريع القوانين والتوجهات العامة لمعالجة الأزمة الاقتصادية للبنان، إذ تداولت لجنة المال والموازنة النيابية مسودة مشروع قانون يفرض على المساهمين في القطاع المصرفي والمديرين ومن يقومون بخدمة عامة، إعادة الأموال المهربة استنسابياً من القطاع.
رأت "جمعية المصارف" أن هناك نمطاً يهدف إلى إثقال المصارف بالتزامات قانونية ونظامية لا طاقة على تحملها. ولا يجوز الاستمرار في استنزاف المصارف لأغراض آنية من دون تحديد المسؤوليات ومعالجتها بشكل عادل".
وذكرت الجمعية بأهمية دعم قدرات القطاع المصرفي باعتباره ركيزة لأي اقتصاد، بما فيها ارتباط الوطن بالخارج من خلال المعاملات المصرفية العابرة للحدود.
لمح بيان "جمعية المصارف" إلى "إقفال القطاع المصرفي" على المدى المتوسط، في حال إقرار تشريع جزائي بمفعول رجعي، و"عدد من المشاريع المطروحة" التي هي مخالفة للدستور والتي من شأنها إذا أقرت حمل المصارف المراسلة الأجنبية إلى وقف التعامل مع القطاع المصرفي.