في العالم العربي شغف واضح بخطط وتقارير التنمية المستدامة، سواء البشرية أو الطبيعية أو الاجتماعية أو الإصلاحية بكل أنواعها. وهذه التقارير تصدر من كل مكان، بداية من منظمات الأمم المتحدة الكثيرة، وكل واحدة منها تُصدر تقريراً سنوياً وفصلياً، حول الأوضاع التي تخص كل منظمة على حدة. تقارير من منظمة الأغذية "الفاو" إلى منظمة الإسكوا إلى "اليونيسكو" وسائر شقيقاتها من المنظمات الأممية. وهذه يقابلها المجموعات والمنظمات التابعة لجامعة الدول العربية التي بدورها تصدر تقارير سنوية حول الأوضاع في الوطن العربي، بدءاً من الثروة السمكية والمحميات وصولاً إلى ارتفاع أو انخفاض أعداد الذين تحت خط الفقر مثلاً.
إلى جانب هاتين المنظمتين الكبيرتين، تأتي تقارير البنك الدولي الشهرية والفصلية والسنوية وتقارير الاتحاد الأوروبي ومنظماته الكثيرة أيضاً. ثم تأتي التقارير من المؤسسات والمنظمات الخاصة مثل "كارنيغي" أو "هيومن رايتس ووتش" أو "غرينبيس" أو منظمة التجارة العالمية، أو الاجتماع العالمي في المكان الفلاني أو المؤتمر الإنساني في العاصمة العلانية التي تعقد سنوياً. تقارير تلو التقارير لا تنتهي، كنهر كبير لكن خالٍ من الماء، أو نهر يفيض بالماء بلا ضفاف. غزارة مدمرة إذا لم تكن بلا فائدة.
جبال التقارير وأنهار الحبر
هذه الأطنان من التقارير المقبلة من العالم يضاف إليها تقارير من المنطقة العربية؛ أي من المؤسسات الحكومية الرسمية أو نظيرتها الخاصة داخل دول المنطقة، سواء المرضي عنها من الحكومات، والمدعومة منها أو غير ذلك، وتليها بالتدرّج تقارير تصدر عن منظمات المجتمع المدني العربي المدعومة من الحكومات أو من دول العالم المتقدم أو من منظمات حكومية عالمية أو من ممولين كبار أو غير المدعومة التي تتمتع بصدقية أكبر ولكن بضعفها قيمتها بسبب استقلاليتها ورفضها التمويل، وهي منظمات قليلة بطبيعة الحال.
فوق هذا كله هناك الوجوه التلفزيونية لباحثين تبلغ أعدادهم بالآلاف حول الشاشات في العالم العربي ويحملون لقب "باحث استراتيجي" أو "محلل البيانات الجيوسياسية" أو "رئيس مؤسسة ما للدراسات المعمّقة الاستشرافية"، إلى آخر كل هذا من أسماء غريبة لا معاني فعلية ملموسة لها. وهؤلاء ضيوف التلفزيونات وشاشاتها طوال الوقت، ويقدمون تقاريرهم الجاهزة مباشرة على الهواء، ولو تم جمعهم مع بعضهم البعض في جيش لأصلحوا العالم ومشاكله وليس العالم العربي وحده لشدة معرفتهم وتأكدهم مما يتكلمون عنه، وبالطبع فإن كلامهم أقرب إلى أسماء مؤسساتهم ومراكزهم البحثية الوهمية.
في المحصلة ومن حيث الشكل لو تم جمع مثل هذه التقارير التي تكون غالباً عبارة عن مجلدات ضخمة أو كتب من مئات الصفحات، منذ بدء صدورها في العالم العربي في خمسينيات القرن الماضي، فإننا سنحصل على جبل من الأوراق التقريرية، أما لو أسلنا الحبر الأسود الذي تحتويه هذه الصفحات من التقارير حول التنمية البشرية المستدامة وخطط التنمية والنهوض فإنها ستحيل نهر دجلة إلى اللون الأسود.
هذا أكثر ما تستطيعه التقارير الدولية والمحلية حول التنمية المستدامة في العالم العربي، وعلى الرغم من أن هذه التقارير والخطط لا تُقرأ من قبل السلطات المعنية والمصنوعة لها أو بطلب منها، وإذا قُرئت فلا يُنفذ منها مطلب واحد. فلو قرأ أحدنا اليوم تقريراً صادراً قبل عشر سنوات عن "الإسكوا" مثلاً، وآخر صدر هذا العام، فإن التغييرات في التقريرين طفيفة جداً وتختلف من دولة عربية إلى أخرى، ولكن في العموم تبقى توصيات التقرير وخططه تقريباً هي نفسها، ما يفسر أمرين، أن الأوضاع في العالم العربي لا تتبدل إلا ببطء شديد، وأن العمل في إصدار التقارير الذي يقوم به باحثون وأكاديميون وإحصائيون وكتّاب هو اقتصاد منفرد بحد ذاته. فالتقارير ذات كلفة عالية يدفعها مواطنو الدول التي تحتاج إلى تنمية لتحسين معيشتهم ويدفعون من خلال ضرائبهم أجرة آلاف بل عشرات آلاف الأشخاص والجمعيات الذين يعملون على هذه التقارير والخطط خلال عام بأكمله.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كأن "اقتصاد التقرير" قائم بذاته بمؤسساته وهيكليتها التنظيمية والإدارية وتكاليف إدارته من أجرة المبنى إلى رواتب الموظفين وما بينهما من مواد بحثية "معمّقة" مُكلفة وأعمال ميدانية. وكأن التقرير أو الخطة هو مطلب بحد ذاته لا ما يحتويه وكيف يتم تنفيذه. ومعظم كتبة التقارير لا ينقطعون عن إيجاد أعمال جديدة بعد كل تهجير أو حرب أو انفجار ضخم في منطقة شرق المتوسط التي لا تهدأ نزوحاً وتهجيراً وحروباً ومعتقلات وعنفًا منزلياً وغياباً أمنياً. فالمنظمات التي تولد من رحم هذه الحروب كثيرة ومموّلة جيداً أكثر من مؤسسات التقارير والخطط. والعمل الميداني الإنساني يحتاج إلى الكثير من الأموال. وهكذا يتفرع عن اقتصاد التقارير نظير له يتمثل في "تسكين" أوجاع من تستهدفهم التقارير ريثما يتم تبنيها وتنفيذها.
وللعلم في إحصاء قبل سنوات تبين أن عدد المراكز البحثية في الوطن العربي يتجاوز 300 مركز كبير، ناهيك بنظيرتها الصغيرة، بالإضافة إلى ألف منظمة لها علاقة بالبحث والتطوير، و100 ألف عالم وباحث، ومئات الجامعات الحكومية والخاصة، وآلاف الكليات.
المراتب على اللوائح العالمية
يمكن النظر إلى وضع هذه التقارير التنموية والخطط المرافقة لها من أجل النهوض التي يقع في غرامها الحكومات والمجتمع المدني العربيان على حد سواء من خلال مقالة منشورة في موقع "كارنيغي للسلام العالمي" في عام 2009. واختيارنا هذا العام البعيد للبرهنة على أنه يمكن لهذه المقالة أن تكون منشورة في أي من الأعوام العشرين الماضية وسيكون مضمونها ملائماً.
المقالة تشكو أن تقارير التنمية الإنسانية العربية الصادرة عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة "قوبلت بالتجاهل شبه التام من دوائر صنع القرار"، أما في حال عدم تجاهلها فإنها تتلقى "الانتقادات الأيديولوجية الحادة من قِبل مثقفين محسوبين على الحكومات العربية، أو ممن لهم مواقف شديدة العداء حيال الأمم المتحدة ومختلف منظماتها، باعتبارها أدوات للغرب ضد دول الجنوب".
لقد تبنت الحكومات العربية استراتيجية التجاهل التام تجاه هذه التقارير التي تنتقدها وتحمّلها مسؤولية الأوضاع المتردية التي تعيشها البلدان العربية، كي لا تُكسب التقارير مصداقية أكبر وصدى أوسع.
لكن في قراءة مغايرة لسبب عدم قبول التقارير من قبل الحكومات أو الباحثين المقربين منها، يتضح أن من بين إحدى نتائج هذه التقارير النهائية وضع الدول العربية على اللوائح العالمية للتنمية البشرية، أو اللائحة العالمية للمدن الأكثر قابلية للعيش، أو لحماية حقوق الإنسان أو للنمو الاقتصادي أو للتربية والتعليم وحرية المرأة، وغير ذلك من لوائح تصدر سنوياً وتضع الدول في مراتب تبدأ من الأولى حتى ما بعد المئة. وكأن ما تريده الحكومات العربية هو عدد المراتب التي تقدمت أو تأخرت بها على هذه اللوائح، طبعاً من دون إدخال دول الخليج العربي بين هذه الدول العربية، لأنها حققت مستويات تنمية مستدامة معروفة وواضحة للعيان، ووضعت خططاً للعمل والتطوير والتقدم ضمن إطار التنمية المستدامة لعقود قادمة، كرؤية 2030 في السعودية والإمارات ورؤية 2050 للكويت، وغيرها من الخطط المرسومة بشكل متقن ويتم تطبيقها بكل جدية في هذه الدول التي تتقدم في مؤشرات اللوائح العالمية على كل الصعد سنوياً. لكن الدول العربية الأخرى لا تتقدم ألبتة، بل وبعضها إلى انحدار على هذه اللوائح؛ سوريا ولبنان والعراق واليمن وليبيا من البلدان التي تهاوت على هذه اللوائح ولم ينفعها درهم التقارير الدولية والإقليمية والمحلية من قنطار علاج.
في تقرير التنمية الأخير، نأخذ مثلاً وحيداً عن مدى التفاوت الذي يعيق التنمية البشرية في العالم العربي، وبالطبع فإن هذه النسبة المتوسطة لمجمل العالم العربي تنخفض وترتفع في كل دولة عن الأخرى، فقد أورد التقرير أن الدول العربية تخسر ربع قيمة التنمية البشرية بسبب عدم المساواة في التعليم والصحة والدخل. وعدم المساواة يؤدي إلى تفاوت الفرص واختلاف التجارب التي يعيشها سكان العالم العربي، إذ يصل مستوى التفاوت في التعليم إلى 38.9 في المئة مقابل متوسط عالمي قدره 26.8 في المئة. هذه نقطة واحدة مثلاً لا يمكن للتقارير مهما كررتها وأعادتها أن تحل من أزمتها مهما حاولت في حال لم يكن هناك قرار حكومي جدي بإزالة هذا التفاوت ولو من خلال خطة عمل مديدة. وحتى ذلك الحين سنبقى من طلاب تقارير التنمية المستدامة لزيادة ارتفاع جبل الأوراق التقريرية الذي نرفعه منذ أجيال في عالمنا العربي الذي تريد حكوماته تسلّق اللوائح درجات، ولكن من خلال كلام لفظي لا العمل التنموي الحقيقي.