أول ما يلفت الانتباه في كتاب عميد معهد الكونسرفتوار المصري السابق فوزي الشامي هو عنوانه "شوبان على ضفاف النيل" (الهيئة المصرية العامة للكتاب). فمن المعلوم أن البولندي فريدريك شوبان لم تطأ قدمه أرض مصر ولم يعش على ضفاف النيل، فما العلاقة إذاً بين شوبان ومصر؟ بالإضافة إلى أن هذا الكتاب يعد الأول من نوعه باللغة العربية حول حياة هذا الموسيقي العالمي الحافلة بالمتغيرات رغم قصرها (1810-1849).
يتتبع الشامي بدايات وصول موسيقى شوبان إلى مصر، مشيراً إلى أنه إذا عاد بك الزمن من نهايات القرن التاسع عشر إلى بدايات النصف الثاني من القرن العشرين وتجولت في القاهرة أو الإسكندرية أو الإسماعيلية أو بورسعيد أو أسيوط، تتناهى إلى سمعك من شرفات المنازل موسيقى شوبان بعزف حي على البيانو. في تلك الحقبة كانت الثقافة الأوروبية حاضرة في البيوت الراقية والمتوسطة الحال. فإن لم يكن شوبان زار مصر إلا أن موسيقاه وصلتها في وقت مبكر للغاية يكاد يوازي انتشارها في الغرب وبالتحديد فرنسا التي كانت ثقافتها الأكثر جذباً للمصريين، وإليها أرسلت البعثات العلمية تباعاً، وعلى طراز عمارتها بنيت القاهرة الخديوية وأنشئت دار الأوبرا المصرية.
البيانو في مصر
ولارتباط مؤلفات شوبان بالبيانو يسرد الشامي تاريخ وجود هذه الآلة الموسيقية في مصر، مرجحاً أنها جاءت مع حملة نابليون بونابرت التي صنعت بداية احتكاك المصريين بالثقافة الغربية. ومن المعروف أن نابليون اصطحب معه علماء من مجالات مختلفة، كان بينهم الموسيقيان هنري جان ريغل الذي يعد في ذلك الوقت من أهم أساتذة البيانو في باريس، وجولاميه أندريه فيللوتو الذي برع في فنون الموسيقى وكان مهتماً بالتعرف على ما بلغته في مصر، خصوصاً على يد أهلها والجاليتين اليونانية والأرمينية. وهكذا يخلص الشامي إلى أن مصر عرفت البيانو قبل مولد شوبان. ولاحقاً أرسل محمد علي البعثات إلى فرنسا، وأنشأ عدداً من المدارس الموسيقية العسكرية. وكانت الموسيقى السائدة في مصر وقتذاك ذات طابع ديني صوفي يصعب عليه مواجهة متطلبات الحداثة. استقدم محمد علي إلى هذه المدارس معلمين من خارج مصر لتعليم المصريين الموسيقى، واستورد لهم الآلات الغربية.
وهكذا برز مصريون يجيدون عزف المقطوعات الصعبة لأهم المؤلفين الموسيقيين الإيطاليين والفرنسيين، حسبما ذكر الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار". ويضيف الشامي دليلاً آخر على وجود البيانو في مصر آنذاك، وهو أن المعلمين في المدارس الموسيقية العسكرية جاؤوا من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا ليدربوا تلاميذهم على آلة البيانو، لأهميتها الكبيرة كآلة تربوية أساسية في منهاج التعليم الموسيقي بخاصة في تعليم ما يطلق عليه الصولفيج ويعني تربية السمع، وعلم الهارموني أو توافق الأصوات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن خريجي هذه المدارس، محمد ذاكر (1836-1906) الذي لم ينل شهرة معاصريه من الملحنين والمطربين آنذاك أمثال عبده الحامولي ومحمد عثمان. فقد تعلم الموسيقى العربية والغربية وكان يدونها بطريقة التدوين الأوروبية. وكانت مؤلفاته تبنى وفقاً لقواعد التناغم الصوتي المعروفة في الغرب (الهارموني)، وهذا العلم يتطلب لدراسته استخدام آلة البيانو بشكل أساسي. إلا أنه مع الربع الأخير من القرن التاسع عشر أصبح البيانو آلة موجودة في أغلب البيوت المصرية من الطبقتين الأرستقراطية والمتوسطة كقطعة أثاث منزلية وحتى وإن لم تكن تستخدم.
نبوغ مبكر
يرصد الكتاب مسيرة شوبان الحافلة بالمتغيرات، علماً أنه قدم أول حفلة موسيقية له قبل أن يتجاوز سن التاسعة، ودفعه إعجاب الجمهور إلى بذل المزيد من الجهد في إجادة العزف على البيانو. أعاد شوبان الطفل وقتها إلى الأذهان طفلاً آخر ظهر قبله بخمسين عاماً في مدينة سالزبورغ وذاع صيته لموهبته الفذة في العزف على البيانو والتأليف. هذا الطفل هو فولفغانغ أماديوس موتسارت. وعبر رحلة طويلة من المتغيرات التي اضطرته إلى النزوح عن بلاده بعد احتلالها ومن ثم وصوله إلى باريس، تربَّع شوبان على عرش العزف على البيانو لما يقرب من العشرين عاماً. فقد كان أفضل عازف ومؤلف موسيقي على هذه الآلة، إذا ما استثنينا فرانز ليست.
وعرف شوبان في التأليف الموسيقي بنزعته الكلاسيكية، بألحان خفيفة مملوءة بالرقة والعذوبة ومسحة من الحزن. مالت أعماله الأولى إلى تطوير تقنيات العزف الموجودة وقتها وإبداع الجديد منها، فيما جنحت أعماله الأخيرة إلى إظهار مهارة العازف في إمكاناته التقنية وقدرته على التعبير والغناء. وكتب نحو 260 عملاً فُقِد عددٌ كبير منها بخاصة مؤلفاته وهو طفل، وقد صاغها في نحو 25 شكلاً من صور التأليف الموسيقي وقوالبه المختلفة المعروفة على مر التاريخ مثل السوناتا، والكونشرتو، والتنويعات، والروندو، والمارشات، والرقصات والغناء.
شوبان في مصر
ويبين فوزي الشامي المنابع التي وصلت من خلالها موسيقى شوبان إلى مصر، وقد كان للجالية الأرمينية دور كبير في ذلك بحيث كثر الاعتماد عليها في الجوانب الفنية إبان حكم محمد علي وأبنائه من بعده. فقد كانوا يقدمون في حفلاتهم ومعزوفاتهم موسيقى شوبان، كما أنهم فتحوا العديد من المدارس لتعليم البيانو. وكانت موسيقى شوبان حاضرة بقوة في هذه المدارس الموسيقية. ومن أشهر هؤلاء الأرمن إغناتس تيغرمان، الذي افتتح معهداً لتعليم العزف على البيانو في ثلاثينيات القرن الماضي وحتى الستينيات في شارع شامبليون في وسط القاهرة. كانت تنبعث يومياً من ردهات هذا المعهد موسيقى شويان يعزفها التلاميذ والمعلمون. وتغريمان هو عازف بولندي ولد عام 1893. ومن بين من تعلموا على يد تيغرمان عازفة البيانو مشيرة عيسى التي قدمت في حفلاتها العديد من مقطوعات شوبان كان آخرها في البرتغال مع مقطوعته الكونشرتو الثاني. ومشيرة عيسى تعمل حالياً أستاذة للبيانو في المعهد العالي للموسيقى العربية في أكاديمية الفنون المصرية.
ومن تلامذته أيضاً عائشة حمدي ومارسيل متى وهي صاحبة مدرسة خاصة في تعليم البيانو في مصر، بخاصة في الجانب المتعلق بتدريس أعمال فريدريك شوبان. ومن عازفي البيانو المصريين الذين لهم إسهامات في نشر موسيقى شوبان في مصر والخارج رمزي يسى. ومن الأجيال الجديدة التي درست البيانو في الكونسرفتوار ويقدمون حفلاتهم في أنحاء كثيرة من العالم التي لا تخلو من عزف أعمال شوبان: محمد شمس ووائل فاروق. فمعهد الكونسرفتوار منذ إنشائه عام 1959 بقرار من الرئيس جمال عبد الناصر لعب دوراً كبيراً في تعليم الموسيقى الأوروبية وأصولها، ومنها موسيقى شوبان الذي قدمت العديد من الحفلات الخاصة بموسيقاه. كما أن هناك جائزة في البيانو باسمه "مسابقة شوبان للبيانو في مصر". وهي مسابقة سنوية تنظمها "جمعية الشباب الموسيقي المصري".
يؤكد الكتاب مدى عمق حضور موسيقى شوبان في مصر منذ نحو قرنين وحتى وقتنا الحالي.