على أرض الحضارة والتاريخ يتجول أيمن حسونة حول فسيفساء كبيرة يعاينها ويتفحصها، وباستخدام فرشاته يزيل الغبار والكلس المتراكم عليها باحثاً عن طرف خيط يوصله إلى الحقبة التي شيّدت فيها، وذلك التنقيب كشف له عن أن الموقع الأثري هذا سقطت الجدران التي تحمله وبات عرضة للانهيار.
بدأ حسونة الحاصل على شهادة الدكتوراه في الآثار والتاريخ في تجميع فريقه للعمل على ترميم أضخم أرضية فسيفساء موجودة في قطاع غزة، وكذلك أقدم موقع أثري في العصر البيزنطي، فهذا المكان يعود لسنة 605 للميلاد.
تدخل سريع
يقول أيمن إن طريقة رسم الفسيفساء وألوانها والنصوص المكتوبة عليها تدلل إلى أنها صممت ونفذت بأيد بيزنطية، وبأيدي الذين عاشوا في غزة مع بداية القرن الخامس، وخلال تلك الفترة كانت فلسطين تدين بالمسيحية، وعمل هؤلاء على بناء حضارة كبيرة باتت اليوم من الآثار، لكنها معرضة للانهيار.
ويضيف، "لذلك نحاول التدخل السريع لإنقاذ المواقع الأثرية من الانهيار، وعملية الترميم تعيد لهذه المواقع مكانتها التاريخية والثقافية، وتحافظ تلك العملية على ما تبقى منها وتحميها من الضرر الواقع عليها من الهجر والإغلاق، وتسهم في تحويلها إلى مقاصد للسياحة وتصبح أكثر جذباً للزوار، وكذلك يسلط الضوء على فترة مهمة كانت فيها فلسطين تعج بالحضارة".
تحرك أيمن السريع لإنقاذ ما تبقى من الفسيفساء البيزنطية كان بسبب إيمانه بالأهمية التاريخية للمواقع الأثرية في قطاع غزة، ولضمان استدامة تلك المناطق التي بات معظمها عرضة للانهيار نتيجة التدخل البشري الذي يجهل قيمتها، أو بسبب عوامل التعرية الجوية، وجاء هذا التحرك في وقت تعاني فيه 50 في المئة من المناطق الأثرية الهجران وعدم الاهتمام الرسمي، وهناك كثير من المناطق الأثرية تعرضت للهدم بسبب الزحف العمراني.
ولم يقتصر عمل أيمن على ترميم الفسيفساء الكبيرة وحسب، بل أيضاً شمل الكنيسة البيزنطية التي تعود للقرن الخامس، ومقام إبراهيم الخليل الذي يعود للقرن السادس، وكل هذه المواقع مصنفة على أنها أثرية وعرضة للانهيار.
الترميم بحسب الأصول
وعادة ما يتولى ترميم المناطق الأثرية هواة أو فرق شبابية تعمل في برامج ممولة دولياً، وتظهر أهمية مشروع ترميم المناطق الأثرية في ظل غياب الجهود الرسمية بسبب الانشغال في القضايا السياسية، وكذلك ضعف السياحة وتهميش منظمة السياحة العالمية التي لا تتعامل مع قطاع غزة، ويبرر ذلك المدير العام للآثار في وزارة السياحة والآثار جمال أبو ريدة قائلاً إن السبب هو ضعف الإمكانات المادية وغياب اهتمام المنظمات الدولية، ولكن على الرغم من ذلك تحاول الجهات الحكومية العمل على حماية الآثار من الدمار والعمل على ترميمها بشكل بسيط بحسب الموازنات المتاحة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الواقع فعملية ترميم الأثار ليست بالمهمة السهلة، بل تحتاج إلى درس عميق للمكان لمعرفة تاريخه وطريقة تشييده، ويوضح أيمن أن أول خطوة في عملهم تبدأ بإزالة الأتربة والكلس عن المكان، ثم صيانة السور الطيني المحيط به، وبعدها تدخل مرحلة الترميم ويقوم بها فريق متخصص ومحترف في هذا المجال، يعمل بحسب المناهج والأصول العلمية الدولية المتبعة عالمياً، وبما يتناسب مع معايير منظمة الأمم المتحدة للتربة والعلم والثقافة "يونيسكو" والقوانين الفلسطينية.
آثار غزة
ويشير إلى أن الترميم يبدأ بعد التعرف على نوعية مادة البناء التي تكون عادة من الطوب اللبني أو الحجر الرملي، ثم درس سمك الجدران والأساسات الأصلية التي بنيت منها، ليصمم فريق العمل قوالب تتناسب مع عملية الترميم، وتكون متوافقة مع الشكل المعماري للمبنى، لافتاً إلى أن العمل يكون وفق المخططات وليس وفق الخيال أو النظام المعاصر الحديث.
ويضم قطاع غزة من الآثار نحو 40 ألف قطعة تعود لمختلف الحضارات التي سكنت فلسطين، وحوالى 150 بيتاً و12 موقعاً و40 مسجداً و22 مبنى، ويوجد فيه عدد من المعالم الدينية المسيحية وأنقاض كنيستين وكنيسة قائمة، ودير القديس هيلاريون الذي يصنف ضمن قائمة التراث العالمي بأنه أول دير في التاريخ المسيحي.
وعلى الرغم من احتواء القطاع على هذا العدد من الآثار إلا أنه يعاني شللاً تاماً في السياحة، فخلال العامين الماضيين لم تستقبل المدنية أي زائر في مناطق جذبها، وباتت تلك المعالم تعاني تراكم الغبار عليها.