تزامنت إقامة معرض "عروس ومأدبة" في صالة "ألف نون" للفنان طلال معلا (بانياس- 1952) مع صدور كتابه الجديد "الفن السوري من الخمسينيات إلى اليوم" باللغتين الإنجليزية والألمانية. الكتاب الصادر حديثاً عن "مؤسسة تقلا" في مدينة بريمن بألمانيا مكان إقامة الفنان المهاجر، جاء بعد سنوات طويلة من البحث، وفيه يتتبع الناقد والفنان السوري الخطوط الأساسية لتطور الفن التشكيلي في بلاده خلال السبعين عاماً الماضية. ويحتوي الكتاب على عدد كبير من الرسوم التوضيحية، التي حرص معلّا على تضمينها كتابه الضخم، كي تتوج مرحلة جديدة من عمله كباحثٍ من أجل تكوين شخصية فريدة للّوحة، التي طالما اشتغل عليها في معارضه وأعماله المنتقاة في بعض متاحف العالم.
وجعلت دراسة هذا الفنان للأدب العربي في كلية الآداب - دمشق، ومن بعدها للفن في إيطاليا، مدركاً لتيارات حداثة فنية عربية رافق بزوغ معظمها في باريس وأميركا والقاهرة وبرلين، وساهم من ثم في بينالي الشارقة الدولي، ونسق برنامجه لمدة سبعة عشر عاماً، وعمل مشرفاً على بيناليهات عربية وأجنبية، وقدّم لها إطارها النظري كناقد في ندواتها، مثلما كتب عنها العديد من المؤلفات التي كان أهمها كتابه "أوهام الصورة"- (دبي- 2001).
علاقة قديمة
وبالنسبة لطلال معلا كانت علاقته بالتشويه علاقة قديمة، وأساساً التعبيرية السورية أخذت تخصيصاً معيناً ضمن التشكيل العربي على الأقل، وذلك لكونها اعتمدت على هذا التشويه. ولكن التشويه لدى الفنان السوري يمكن أن يكون مصطلحاً غير مطابق للشكل الموجود في اللوحة، فكل ما يخالف الشكل الطبيعي للإنسان هو تشويهٌ له. لكن في معرض "عروس ومأدبة" ذهب معلّا إلى أبعد من قضية التشويه، فهو يعتبر أن على الجسد الإنساني أن يكون حمّالاً للمواضيع والقضايا في أعماله، ولذلك استخدم تحويرات متعددة على الجسد الإنساني، سواء غياب أعضاء شخوصه أو اختلاف الأبعاد في تكوينها. كل ذلك كان خروجاً على النمط البشري، بالتالي أرسل الفنان إشارات لتهديدات تحيق بالكائن الإنساني، وعبّر عنه بحسٍ فجائعي، تخللته مشهديات عن "العشاء الأخير"، ومناخات لونية أبرزت ملامح من الشعائر السورية، ومن طقوس التضحية والافتداء في الثقافات السورية القديمة.
وبرزت التشويهات الموجودة في لوحات معلا كتعبير عن قلق يعيشه الإنسان السوري اليوم، وهذا ما أعطى تكثيفاً للقضية المُراد طرحها. فالتشويه عند معلاّ كان في اشتغاله على الوجه الإنساني، فالشكل لديه يخرج بشكل عفوي من وعي الفنان، ومن ازدحام القضايا في المنطقة والاستلاب الداخلي، ومن المعاناة التي يعيشها الإنسان السوري. فهو لم يتوجه إلى أسلوبية التشويه بقدر ما مال نحو التعبير. وهذا التعبير لدى صاحب كتاب "بؤس المعرفة" (وزارة الثقافة) اشتمل على أكثر من التشويه بشكل عام، فثمة ظروف موضوعية سياسية واجتماعية دفعت معلا مراراً نحو هذا الأسلوب، ناهيك عن ظروف تتعلق بالحرية والهوية والانتماء، وبالقلق على الحياة والوجود.
يأتي معرض "عروس ومأدبة" لطلال معلا بعد معرضيه الأخيرين "انتهى زمن الصمت" و"أرى الناس"، وقد اشتغل هذه المرة على الحالة الوجودية للإنسان السوري في زمن الحرب، وهي بمثابة ابتكارات للهروب الإنساني نتيجة سيطرة الخوف على ضمائر الناس ودواخلهم. فهو يعتقد أن مهمة الفنان ليست فقط خلق شخوص ملغزة تحمل مفاهيمها المثقلة بالمعنى وحسب، بل ان تكون هذه الأعمال قادرة على مواجهة المستقبل. ويفرّق معلاّ في لوحاته بين القناع والرأس، وبين الجسد والجسم، وبين الحركة الخفيفة والتعبير العميق للوجه الإنساني. فهذه المتناقضات هي التعبيرات التي يفسّر من خلالها الفنان كيفية تطور عمله مع اللون، فالوجه لديه كالمرآة يفشي ماهية الشخص، وهو – أي الوجه البشري- أكثر توهجاً من أي جزء آخر من الجسد. فعندما يختفي كائن إنساني في الموت يفقد وجهه في الوقت الذي يفقد فيه الحياة. ولهذا يوكل معلا للون أن يتكفل بهذا الدور، وأحياناً للحركة، وأحياناً أخرى يعتمد غياب الرؤية المتمثلة في انعدام اليدين من أجساد الشخصيات التي يرسمها.
التقنيات الحديثة
كان معلا قد حقق جزءاً من أعماله السابقة عبر تقنيات الفيديو آرت والأنستليشن، متجاوزاً الحالة التقليدية التي يعمل من خلالها فنانو بلاده لإنتاج التصوير في المنطقة العربية. فاشتغالات هذا الفنان جاءت كثيفة عبر إدارته لعشرات المراكز والمؤسسات والمعارض التشكيلية العربية، وتحقيقه للعديد من المؤلفات النقدية والبحثية عن عالم الصورة وسلالاتها بين التراث والحداثة.
بيد أن ظروف الحرب التي تعيشها بلاده منذ أكثر من عشر سنوات لم تسمح بتكراره لهذه التجربة، ليعود هذه المرة إلى اللوحة كبيت لمخيلته، آخذاً صورةً لبشر الحرب في عمله على خامات من القماش والكرتون، وبتقنيات الأكريليك والأحبار، وفيها يبدو صاحب كتاب "أحوال الصور" (الشارقة- 1999) وكأنه يطور العملية التصويرية، من خلال فن التشويه، وذلك لكون العمل على التشويه وإيجاد بدائل له أمر مطروح في التعبيرية المعاصرة. ولذلك تبقى اللوحة لدى معلا هي توليد للمعاني، فإذا كان هناك هدف يحاول أن ينشده من خلال هذه الأعمال، سواء عن الحالة الداخلية للإنسان الذي يصوّره، أو رواية ما يراه من دمار وخراب حوله.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اشتغل صاحب كتاب "العالم الضال" (الشارقة- 2003) على معارضه الأخيرة بين دمشق وبيروت بعد إحراق مرسمه في بلدة قدسيا- قرب دمشق عام 2013. يومها خسر الفنان أكثر من تسعين لوحة أكلتها نيران الحرب التي دمرت محترفه المشترك مع شقيقه الرسّام أحمد معلّا. هكذا يأتي "عروس ومأدبة" كمحاولة للبحث عن المعنى من خلال شغله على التشويه، وهو انعكاس تقريباً للجانب السلبي من الحياة على الفن. وركّز طلال في محترفه الخاص على الانتهاكات التي تتم على القيمة الإنسانية، مما يفسر وجود الإنسان دائماً في كادره كموضوع للوحاته، أو كتصريح عن الخوف الكامن في داخل هذا الإنسان، ليس من الموت أو المواجهة وحسب، بل هو خوفٌ من أن يسود الشكل الهمجي بدلاً من قيمة الجمال الأساسية.
لا يمكن الحديث عن حدود أو فواصل في تجربة معلّا، فالمعنى في أعماله ليس مرتبطاً بالشكل وحسب، بل بمادة وتكوينات لسمات لوحة سورية معاصرة. فلكل لوحة شجرة عائلة كما يقول صاحب كتاب "المؤتلف والمختلف" (أبو ظبي – 2007) وفي تصريح عن المعرض لـ"اندبندنت عربية" يقول معلّا: "إذا كان الفنان يعتمد على جسده في تحقيق أعماله الإبداعية، فإنه يعتمد أيضاً على لهجته أو لغته الفنية لإنجاز عالم مترابط تبرزه الوسائط الفنية، والتي تكون لغوية في أجزاء مهمة منها. وفي أجزاء أُخرى تتمثل هذه الوسائط في الإشارات أو العلامات المتمددة بالوظائف، ومن أهمها الوظيفة البصرية بمختلف أبعادها، سواء كان العمل تصويراً أو نحتاً، بما في ذلك المنجزات الفنية المستقرة، أو تلك التي يجري تجريبها باعتبارها تلخص وتبسط الواقع بتجاوز تعقيداته، وذلك لإبرازه وتوضيحه وإدراكه بصورة جلية. فمن دون هذه اللغة الفنية يختفي الواقع، ويضحي الفن مضللاً، بدل أن يكون مادة تواصل وترابط على المستوى الإنساني".