ينفي ديفيد فروست قطعاً وجود أي رابط بين استقالته و"بريكست"، ذاكراً قيود فيروس كورونا "القسرية" و"المسار" [المنحى] الذي اتخذته الحكومة في معالجة الشؤون الاقتصادية. ولكن توقيته له دلالاته: فقد خرج من المنصب بينما سمعته لا تشوبها شائبة (أقله بالنسبة لتيار اليمين في حزب المحافظين) قبل أن يضطر للقيام بأي تنازلات تتعلق ببروتوكول إيرلندا الشمالية- أو اتخاذ القرار بتفعيل بنود المادة 16، مما قد يطلق العنان للحرب التجارية مع الاتحاد الأوروبي.
كانت الإحاطة الإعلامية التي أدلى بها مسؤولون كبار في وايتهول أمام صحافيين أوروبيين مستقرين في لندن قد أشارت إلى تخليهم عن مطلب فروست بإقصاء محكمة العدل الأوروبية والحيلولة دون لعبها دوراً في حل النزاعات المتعلقة بالبروتوكول. كما أن فروست لم يخفه أن الشهية التي تحلى بها جونسون في السابق للمواجهة مع بروكسل قد ضعفت، فالمشاكل الداخلية التي واجهته خلال الشهرين الماضيين كانت لتجعل الحرب مع الاتحاد الأوروبي تبدو وكأنها تضييع يائس للوقت.
لكن توقيت فروست كان بالغ السوء. وحاول جونسون أن يؤخر توقيت استقالته. وقبل فروست بأن ينتظر حتى يناير (كانون الثاني)، ولكنه سارع بالإعلان عن استقالته خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي بعد تسريب قراره. ونظراً لكونه رئيس وزراء لا يملك سوى قلة قليلة من الحلفاء المقربين الحقيقيين، اعتبر كبار أعضاء حزب المحافظين بأن خسارة جونسون لتوأم روحه في مسألة "بريكست" ستضر به أكثر من خسارته في الانتخابات الفرعية في نورث شروبشاير.
والآن تنتقل الأزمة الأوروبية الشائكة إلى أيدي وزيرة الخارجية ليز تراس. ما المقاربة التي ستتبناها للتعامل مع البروتوكول الذي سيتصدر جدول أعمالها عند استئناف المفاوضات في السنة الجديدة؟ البيان الذي نشرته بعد اتصالها الهاتفي بنائب رئيسة المفوضية الأوروبية ماروس سيفكوفيتش فسر بطريقتين من قبل من يطالبون بموقف متشدد [حازم] ومن يريدون موقفاً أكثر مرونة في المسألة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فقد عبرت عن رغبتها بإقامة "علاقة بناءة مع الاتحاد الأوروبي" مشيرةً إلى أن حل المشاكل الراهنة "أمر حيوي من أجل تحقيق تلك الإمكانية". ولكنها أصرت على أن موقف المملكة المتحدة لم يتغير، وأعادت التأكيد على تهديد فروست بإطلاق المادة 16 من أجل تعليق البروتوكول، إما جزئياً أو بشكل كامل. وأفسحت بعض المجال للتحرك في مسألة محكمة العدل الأوروبية: فقد قالت تراس، إنه لا يمكنها أن تكون "الحكم النهائي" في النزاعات، ولكن يمكن أن تلعب دوراً في ما يتعلق بالبنود الواردة في القانون الأوروبي.
ظاهرياً، سوف تحتاج وزيرة الخارجية الطموحة إلى كسب ود المحافظين المشككين بالاتحاد الأوروبي لكي تحصل على أصواتهم في أي انتخابات مستقبلية تحدد من يتولى توجيه دفة الحزب. وهو ما يشير إلى ضرورة تمسكها بمقاربة فروست العدائية. وتراس مؤهلة جداً لأن تتعامل بقسوة وصرامة، ولن ترغب بأن تبدو لينة جداً منذ البداية، لأن ذلك سيضعف من نفوذها في المفاوضات. وهي تقدم نفسها على أنها مارغريت ثاتشر الثانية- وهذا ما يعجب أعضاء حزب المحافظين العاديين مع أنه يزعج بعض نواب الحزب- وهي تعلم علم اليقين أن ثاتشر قالت "لا، لا ولا" للاتحاد الأوروبي.
ولكن عملياً، قد تبرهن تراس أنها تتحلى بحس عملاني ومرونة أكثر من فروست. لن يكون لمناصري "بريكست" المتشددين، الذين يشاركون تراس موقفها الليبرالي، أي خيار آخر إن حدثت أي منافسة بينها وبين ريشي سوناك. (قد تترشح بريتي باتيل إلى جانب تراس، ولكنها لن تظل ضمن المرشحين على الأرجح حين يختار نواب المحافظين المرشحين النهائيين لكي ينتخب أعضاء الحزب أحدهما). تراس شخص فعال، وسيشكل حل مشكلة البروتوكول إنجازاً لها.
كان رحيل فروست هدية غير متوقعة لبروكسل في عيد الميلاد. وقال لي أحد مصادري "يسود جو من التفاؤل بشأن تغيير الطاقم. ونعتقد أنها سترغب في إبرام صفقة بدل إطالة المفاوضات".
سوف تسهل إقامة علاقة عملية أقوى مع الاتحاد الأوروبي الأولويات "الكبرى لوزيرة الخارجية المتعلقة بمواجهة روسيا والصين. وسوف يجد مسؤولو وزارة الخارجية الذين استبعدوا سابقاً من مسار بريكست، فرصة لتحسين العلاقات مع العواصم الأوروبية لصالح الأهداف البريطانية الأوسع. أما دول البلطيق والدول الاسكندنافية، فتعجبها تراس بسبب موقفها من بيلاروس وفلاديمير بوتين- وهو ما يمكن البناء عليه. حتى أن الاتحاد الأوروبي، الراغب بحل مسألة البروتوكول، قد يقدم بعض التنازلات التي يمكنها استثمارها في الداخل، لا سيما مع المشككين بالاتحاد الأوروبي.
بعض المتشددين لا يثقون بها لأنها دعمت خيار البقاء في الاتحاد الأوروبي في استفتاء عام 2016 (على الأرجح لاعتقادها بأنه الخيار الفائز وبأن ديفيد كاميرون سيبقى في موقعه كرئيس الوزراء). إنما مذاك، أظهرت حماسة المرتدين، وعبرت عن ندمها لأنها لم تدرك مدى الحريات التي سيوفرها "بريكست"، وأصبحت أكبر مناصرة لـ"بريطانيا العالمية" التي أعلنها جونسون.
شعر مناصرو "بريكست" بطمأنينة كبيرة إزاء تعيين كريس هيتون-هاريس وزيراً للدولة للشأن الأوروبي؛ وسوف يستلم "مباشرة" ملفات تراس الكثيرة. كل وزراء الخارجية يسافرون كثيراً، وتراس تشغل كذلك منصب وزيرة شؤون المرأة والمساواة. وستحتاج لمخزون الطاقة الهائل الذي تشتهر بأنها تمتلكه.
أثناء بقاء جونسون في موقع رئيس الوزراء، أشك بأن يكون للمملكة المتحدة علاقة ناضجة وراشدة مع الاتحاد الأوروبي التي ستفيد الطرفين في يوم من الأيام. ولكن مع حلول تراس محل فروست يبرز احتمال أن تتوقف الحكومة، أخيراً، عن خوض آخر حروب "بريكست".
© The Independent