Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"قصة الحي الغربي" أغرت سبيلبرغ فأعادها إلى الشاشة

من براءة الزمن الرومانطيقي إلى الواقعية المفرطة في أزمنتنا الحديثة

مشهد من النسخة الجديدة من "قصة الحي الغربي" (موقع الفيلم)

في عام 1998 حين أحب المخرج الأميركي الطليعي غاس فان سنت أن يعيد إخراج فيلم "بسايكو" لألفريد هتشكوك من جديد، كان يعرف أن لعبته ستكون محدودة النتائج، بالنظر إلى أن الفيلم الأول الذي حققه سيد سينما التشويق قبل ذلك بأكثر من ثلث قرن وصل إلى ما يدنو من الكمال، بحيث ليس منطقياً لأحد أن يتوصل إلى ما توصل إليه، ومهما كان مستوى إبداعه وطليعية أساليبه. كان تحدي فان سنت ميؤوساً منه منذ البداية، لذلك اكتفى بمتابعة سيناريو المعلم الكبير ثانية بثانية، معلناً منذ اللحظات الأولى أن الفشل سيكون مآل فيلمه. وكان محقاً في ذلك، فالفيلم الجديد حصد فشلاً منطقياً مماثلاً لكل فشل كان دائماً من نصيب أي فيلم يحاول أن يكون إعادة إنتاج لواحدة من التحف السينمائية القديمة.

سبيلبرغ يتحدى

ومن هنا، حين أعلن ستيفن سبيلبرغ منذ سنوات قليلة أنه في صدد إعادة إنتاج "قصة الحي الغربي" (ويست سايد ستوري) فغر كثر أفواههم وهم على ثقة تقريباً من أن سبيلبرغ لن ينجح فيما أخفق فيه كثر من قبله، أي في العودة إلى تحفة قديمة متحدياً إياها محققاً من جديد فيلماً ينطلق منها. والأدهى من ذلك هنا هو أن "التحفة" المعنية هنا فيلم عرف دائماً بكونه واحداً من أعظم الأفلام الموسيقية الراقصة في تاريخ الفن السابع، وهو الذي ظهر منذ بداية سنوات الستين من إخراج الثنائي روبرت وايز وجيروم روبنز، احتل مكانة متقدمة بين أعظم مئة فيلم في تاريخ السينما إلى جانب احتلاله لسنوات المركز الأول بين أكثر الأفلام إيرادات، وذلك في الأقل حتى ظهور "صوت الموسيقى" للمخرج روبرت وايز نفسه. ومن هنا كان التحدي الذي يريد سبيلبرغ الإقدام عليه كبيراً، بل يبدو أقرب إلى المستحيل. أما الدهشة فأتت من واقع أن سبيلبرغ لا يعتبر مخرجاً كبيراً فقط بل هو "حاسوب" كبير أيضاً ندر له أن أقدَمَ على مشروع لا يمكنه أن يضمن نجاحه سلفاً. وهكذا بدأت في الأوساط السينمائية لعبة انتظار وترقب لا سابق لها في تاريخ السينما الكبيرة. ووضع معجبو سبيلبرغ أياديهم على قلوبهم.

المغناة المسرحية منطلقاً

غير أن ما لم يتنبه إليه كثر حينها هو أن صاحب "ذا بوست" و"إنقاذ المجند رايان" وسلسلة "إنديانا جونز" وغيرها من أفلام حققت للسينما نجاحات مذهلة، لم ينطلق في مشروعه الجديد من فيلم روبرت وايز/ جيروم روبنز، بل من المسرحية الغنائية التي بني عليها ذلك الفيلم. والفارق كبير بمعنى أن الفيلم الجديد بدا وكأنه يتأسس على العمل المسرحي القديم غير مهتم كثيراً بالكيفية التي تم بها الاقتباس في المرة الأولى. وبالتالي وجد سبيلبرغ نفسه متحرراً تماماً من تلك القيود التقنية التي كان يمكن أن تكبله لو دنا من فيلمه عبر الفيلم السابق. ولا يعني هذا طبعاً أنه تجاهل الفيلم السابق تماماً حتى وإن كان قد اشتغل على سيناريو جديد تماماً، لكنه يعني أنه لم يجد نفسه ملتزماً بأي من القواعد التي سار السيناريو القديم على هديها. ومن هنا، ما إن بدأت مشاهد الفيلم برقصة الشارع التي يؤديها فريق الـ"الجيتس" المؤلف من أميركيين بيض آتين من شتى الأطياف الأوروبية على الضد من فريق الـ"شاركس" البورتوريكيين بخاصة، حتى أدرك المتفرجون الذين يعرفون الفيلم القديم جيداً أنهم أمام فيلم جديد تماماً، لا تغيب عنه في أية لحظة من لحظاته لمسات سبيلبرغ المتعمقة في حداثة سينمائية ولغة أسلوبية تطورت إلى درجة بادية الوضوح خلال الستين عاماً التي تفصل بين الفيلمين. صحيح أن سبيلبرغ لم يحدث تغييرات كثيرة لا في الحبكة ولا في الأغاني ومكانها في سياق الفيلم، بل كانت ضئيلة تلك التغييرات التي أجراها في الموسيقى سواء كانت موسيقى الأغاني أو موسيقى الرقص. ولكن حسبنا مثلاً أن نقارن بين المكان الذي أُنشدت فيه أغنية "أميركا" في النسخة الأولى ومكانها في النسخة الجديدة حتى يصبح في مقدورنا القول كيف أن "أصابع سبيلبرغ مرت من هنا".

مجابهة بين منطقين

ففي النسخة القديمة تم تقديم الأغنية التي يتجابه فيها منطقان واحد يثني على الحياة في أميركا والثاني ينحو نحو الدعوة إلى العودة إلى الأوطان الأصلية -بورتوريكو هنا- فوق سطح بناية يطل على المدينة من فوق، ما يفقد المناخ الأميركي المعنِي هنا روحه ودلالته المباشرة. أما الآن فها هو ذا سبيلبرغ يختار الشارع وسط المدينة مكاناً لتقديم تلك الأغنية التي تعتبر الأشهر بين أغنيات المغناة المسرحية الأصلية والفيلمين. ولعل الجرأة التقنية التي اعتمدها سبيلبرغ في الفيلم تبدَّت ماثلة هنا، إذ انتزعت من المشهد رومانطيقيته الخادعة التي تتنافى أصلاً مع معاني الأغنية، لتدخله في صلب الحياة المدنية، مصوراً الأغنية كلها مع عدد كبير من المغنين يتنقلون من شارع نيويوركي إلى آخر وسط حركة السيارات والمشاة وواجهات المحلات في نيويورك تبدو جديدة هنا تماماً.

دور أساسي للجغرافيا المدينية

والحال أن في استطاعتنا الإشارة انطلاقاً من هنا إلى طغيان هذه المدينية التي أسبغها سبيلبرغ على مشاهد عديدة من الفيلم، وليس فقط عبر استخدام بديع للأمكنة سواء بنيت كديكورات كان لا بد منها، بالنظر إلى أن الكثير من الأماكن التي صور فيها الفيلم الأول قبل ستين عاماً لم تعد موجودة. ولنفتح هلالين هنا لنفترض أنها حتى لو كانت لا تزال موجودة كان سيكون من المنطقي لسبيلبرغ أن يبدلها بديكور من النوع "الهيبرواقعي" الذي يجعل المدينة تبدو أكثر مدينية من المدينة نفسها. ولنستعد هنا في ذهننا تركيبية مورفولوجية البيوت التي جعل الفيلم بيت ماريا يطل عليها، من خلال تلك الشرفة الشهيرة، التي لا بد أن نذكر الدور الكبير الذي تلعبه في أحداث الفيلم سواء كان في نسخته الجديدة أو القديمة. وهو دور يتلاقى وإن بقدر أقل من الميلودرامية الرومانسية مع الشرفة الشهيرة التي نعرف أهمية الدور الذي تلعبه في مسرحية "روميو وجولييت" لشكسبير، علماً بأنها الأصل الذي بنيت عليه وبكثير من التصرف تلك المغناة التي اقتبس منها الفيلم. ولنغلق هنا هذين الهلالين لننتقل إلى فارق أساسي بين نسختي الفيلم، ويكمن في التمثيل. فهنا حتى وإن كان ثمة كثر من المتفرجين القدامى لا يخفون حنينهم إلى وجود ناتالي وود في دور ماريا في نسخة وايز/ روبنز، وإلى رومانسية جورج شاكيريس حتى في لعبه دور الشرير القاسي في الفيلم القديم، وحتى إلى ريتا مورينو التي أبدعت بشكل استثنائي في دور حبيبة شاكيريس، معبرة عن حيوية لاتينية صادقة (لنراها هنا تعود في دور صاحبة المقهى العجوز درامية مأساوية أكثر منها صبية حيوية، خالقة نوعاً من ربط مستحب بين الفيلمين)، لا شك أن خبرة سبيلبرغ التي باتت هائلة في التعامل الواقعي مع الممثلين أضفت على الفيلم الجديد حداثة في الأداء، لا يمكن القول إنها كانت من سمات الفيلم القديم، إذ في فيلم سبيلبرغ أحلّ أداء يبدو طالعاً مباشرة من أفلام الغانغستر والسينما "نوار" مكان ذلك الأداء الرومانطيقي، إلى حد السذاجة أحياناً الذي ساد في الفيلم القديم، ليجعلنا أمام شخصيات من لحم ودم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بين زمنين

بيد أن علينا هنا أن ننبه إلى أن الأحكام التي نطلقها هنا لا يمكن أن تعتبر تفضيلاً لواحد من الفيلمين على الآخر. كل ما في الأمر أن الفيلم القديم كان ابن زمنه وابن أزمنة البراءة التي ولد في أحضانها، بينما أتى الفيلم الجديد، وبالسيناريو الخاص الذي كتب له ابناً لواقعية الأزمنة التي نعيشها. ومن المؤكد أن هذه العصرنة هي ما يكمن خلف تلك "المعجزة الصغيرة" التي جعلت ستيفن سبيلبرغ ينجح في ما فشل فيه كثر من قبله: ينجح في أن يجعل التحدي الذي كان يبدو مستحيلاً في تجاوز النجاح الهائل الذي حققه في الماضي فيلم كان من "الأيقونية" بحيث اعتقد كثر أن من المستحيل تجاوزه، محققاً نجاحاً يبدو حتى الآن أنه لن يقل عن القديم إن لم يتجاوزه. ويقيننا أن زمناً طويلاً سوف يمضي قبل أن تحصل أمام أنظارنا معجزة صغيرة جديدة من النوع نفسه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة