بعد مصادقة المحكمة الاتحادية العليا في العراق على النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية، بعد أكثر من شهرين ونصف الشهر على إجرائها في 10 أكتوبر (تشرين الأول)، وضع الجدل والصراع بين القوى السياسية بشأن صحة الانتخابات والاتهامات بالتزوير والتلاعب بالنتائج في ملعب التوقيتات الدستورية لآلية تسمية الرئاسات الثلاث، الجمهورية والبرلمانية والوزراء. وإذا ما سارت الأمور بشكل طبيعي ومن دون عراقيل أو تسويات، من المفترض أن تنتهي هذه العملية خلال الأسبوع الأول من انعقاد الجلسة الأولى للبرلمان الجديد، أو على أبعد تقدير مطلع مارس (آذار) المقبل، إذا استنفدت الحوارات المهلة الدستورية المحددة بـ15 يوماً لانتخاب كل واحدة من هذه الرئاسات.
الآلية الدستورية، بعد مصادقة المحكمة الاتحادية، بحاجة إلى توقيع رئيس الجمهورية الحالي على النتائج كي تدخل المرحلة التنفيذية والتوجه إلى الدعوة لعقد الجلسة الأولى للبرلمان الجديد. وقد وضعت على نار حامية في وقت ما زال الجدل داخل المكونات وفي ما بينها بشأن اختيار الشخصيات المرشحة لتولي الرئاسات الثلاث مستمراً ولم يحسم، على الرغم من أن التوقعات وما كشف عن الحراك السياسي لقوى هذه المكونات بعد إعلان المفوضية العليا للانتخابات النتائج كانت تشير إلى تواطؤ تلك القوى والمكونات على عدم الذهاب إلى الآلية الدستورية قبل الاتفاق على سلة كاملة متكاملة لأسماء المواقع السيادية الثلاثة.
حتى الآن، لا يبدو أن هناك مؤشرات على مثل هذا الاتفاق أو السلة الواحدة. وإذا ما كان المكون الكردي والكتلة الكبرى الممثلة لـ"الحزب الديمقراطي" بزعامة مسعود بارزاني، قد حسما خيارهما بعدم التجديد للرئيس الحالي، برهم صالح، فإن المكون السني يبدو أنه يقترب إلى الاتفاق أو التفاهم على توزيع الحصص والمواقع بين كتله البرلمانية خصوصاً بين كتلتي "تقدم" (37 نائباً) الكبرى بزعامة رئيس البرلمان المنتهية ولايته محمد الحلبوسي، وكتلة "عزم" وتحالفاتها التي وفرت لها نحو 34 مقعداً بزعامة خميس الخنجر. وقد ترسو التفاهمات على إعادة تسمية الحلبوسي لدورة جديدة، وإعطاء كتلة "عزم" (الخنجر) موقع نائب رئيس الجمهورية أو نائب رئيس الوزراء.
في المقابل، يبدو أن الأمور داخل المكون الشيعي ما زالت عالقة ومعلقة، خصوصاً في محاولات التوصل إلى تفاهم لحسم مفهوم "حكومة الأغلبية" التي يطالب بها مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري وصاحب الكتلة البرلمانية الكبرى من لون واحد. وهو جدل يفتح على جدل آخر يدور حول تمسك الفريق الآخر داخل المكون، المتمثل في قوى الإطار التنسيقي، بتشكيل حكومة توافقية يكون للصدر فيها الحصة الكبرى وحتى موقع رئاسة الوزراء. وقد خرج هذا التحالف الإطاري بفتوى تسووية بين مفهوم حكومة الأغلبية والحكومة التوافقية بالدعوة إلى اعتماد مبدأ حكومة أغلبية من داخل التوافق، أي التوافق على الأغلبية الحكومية.
ومع ترحيب غالبية قوى الإطار التنسيقي، خصوصاً زعيم تحالف "الفتح"، هادي العامري، الذي أعلن التزامه قرار المحكمة على الرغم مما شاب الانتخابات من تزوير وتلاعب، رحب زعيم تيار "الحكمة" عمار الحكيم بالقرار معلناً عدم مشاركته في الحكومة المقبلة. أما زعيم "دولة القانون" رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، وصاحب الكتلة الكبرى (33 نائباً) داخل الإطار، فاعتبر القرار متوقعاً وأنه كان يأمل إنصاف المتضررين.
وإذا ما كان موقف الصدر واضحاً والجهة الأكثر ترحيباً بهذا القرار، خصوصاً أنه سارع إلى الدعوة إلى تشكيل "حكومة أغلبية وطنية" بالتحالف بين كتلته (74 نائباً) والكتل الكبرى في المكونين السني والكردي، فإن موقف زعيم "عصائب أهل الحق" قيس الخزعلي جاء موارباً، إذ فضل الوقوف على الحد الفاصل بين الترحيب الحذر والرفض المبطن من خلال اتهام جهات داخلية وخارجية بممارسة ضغوط على المحكمة الاتحادية لإهمال الطعون والتصديق على النتائج المشكوك فيها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويكشف موقف الخزعلي عن وجود جدل بشأن الموقف من قرار المحكمة الاتحادية والقبول به على مضض أو الذهاب إلى خيار رفضه بالكامل. ويدور هذا الجدل داخل الفصائل المسلحة المحسوبة على إيران ضمن "الحشد الشعبي" وخارجه، التي شكلت رأس الحربة في معركة الاعتراض على نتائج الانتخابات ووقف أغلبيتها خلف التجمعات الشعبية اليومية والمظاهرات الأسبوعية التي حاولت اقتحام المنطقة الخضراء.
هذا الانقسام أو ما يشبه الانقسام الناتج عن الترحيب الحذر بقرار المحكمة الاتحادية داخل قوى الإطار التنسيقي قد يكون انعكاساً واضحاً للموقف الذي يشكل المظلة الإقليمية لهذه القوى والفصائل. فطهران، وفي إطار التفاهمات غير المعلنة بينها وبين الإدارة الأميركية، تبدو أكثر ميلاً ورغبة في تمرير الاستحقاقات الدستورية العراقية حتى ولو كان ذلك على حساب قوى محسوبة عليها. إلا أنها في المقابل، لم تلجأ كما في الماضي إلى ممارسة دور الوصاية أو الضغط أو الفرض عليها، بل تركت لها حرية الخيار تحت سقف لا يعرض استقرار العراق لأي خطر أو تهديد، ولا يؤدي إلى احتمالات أو إمكانية تفجير صراع مسلح داخل قوى المكون الشيعي. ما يترك خيار الصراع السياسي مفتوحاً بين قوى هذا المكون، وظهور معسكرين داخله، الأول تسووي يدفع في اتجاه تشكيل حكومة توافقية تبعده عن تجرع كأس الانصياع لقيادة زعيم التيار الصدري المطالب بحكومة غالبية، من دون التخلي عن مساعي تشكيل تحالفات تضعه في المنافسة مع التيار الصدري على تسمية الكتلة الكبرى، وبالتالي امتلاك الحق في تسمية رئيس الوزراء المقبل. في حين أن الفصائل الرافضة للنتائج أو السير في الخيار الإيراني تسعى للدفاع عن منظومتها العسكرية والأمنية والمالية والسياسية التي تحكمها هذه المرة الاعتبارات العراقية الداخلية بالدرجة الأولى وليس الاعتبارات الإقليمية والإيرانية.
والجدل في شأن طبيعة الحكومة داخل المكون الشيعي يفتح الباب أمام جدل من نوع آخر، لكنه في السياق نفسه حول الشخصية المرشحة لتولي منصب رئاسة الوزراء، في ظل تمسك قوى الإطار التنسيقي -حتى الآن- برفض التجديد للرئاسات الثلاث، لتحقيق هدفها باستبعاد رئيس الحكومة الحالي عن السباق وقطع الطريق على عودته لولاية جديدة، خصوصاً من جانب الفصائل المسلحة التي ترفض أي تسوية في هذا الموضوع. على الرغم مما قد يشكله مصطفى الكاظمي من نقطة تلاقٍ وتفاهم في المعادلة الأميركية الإيرانية التي تراعي موقف قوى عربية وإقليمية معنية بالشأن العراقي.
الكاظمي من جهته، رفع من مستوى التنسيق بينه وبين هذه القوى الفاعلة والمؤثرة على الساحة العراقية، من تسهيل انسحاب القوات القتالية الأميركية وصولاً إلى قرار البدء بتنفيذ الربط السككي بين شلمچه الإيرانية والبصرة العراقية، التي من المفترض أن يفعّل العمل بها مع زيارة وزير النقل والإسكان الإيراني الجنرال رستم قاسمي إلى بغداد، على الرغم من أصوات الاعتراض الداخلية التي ترى أن هذا المشروع يضرب مستقبل العراق ودوره وميناء الفاو الكبير على خط التجارة الدولية بين الشرق والغرب.