هو عام ثان في مواجهة البشرية لجائحة كورونا وانعكاساتها الصحية والاقتصادية، وهو عام لتطهير الصراعات الدولية والإقليمية، لكنه بالنسبة إلى لبنان كان كل ذلك مجتمعاً؛ عام استمرار الانهيار المالي والاقتصادي والوباء في ظل انهيار المؤسسات الصحية وغياب المؤسسات الشرعية لمصلحة تسلط ميليشيات السلاح والمال والطائفية.
يصعب إيجاد نافذة أمل في الغرفة اللبنانية السوداء، فرغم الأزمات المتتالية والمزدحمة تستمر سلطة الأمر الواقع، وريثة حروب القرن الماضي واحتلالاته وجيوشه الأجنبية في فرض نفوذها من دون حساب، قضت على احتمالات خروج لبنان من حفرته وأفقرت اللبنانيين وقمعت انتفاضتهم وحولت انفجار مدينتهم في الرابع من أغسطس (آب) 2020 إلى حادث ينبغي نسيانه من دون حاجة إلى الحقيقة والمحاسبة.
في عامين كاملين لم تتقدم سلطات الأمر الواقع بأي مبادرة لإخراج البلاد مما هي فيه، وحتى اللحظات الأخيرة من العام كان رموزها يخرجون إلى الناس بوعود وتساؤلات، يلمحون إلى مسؤولية الآخرين، ولا يتحملون مسؤولية في لعبة مكشوفة محدودة الأثر تحت سقف يرسمه "حزب الله" الذي لا يرى في لبنان سوى مخزن آمن للصواريخ الإيرانية يفتح عند حاجة طهران وحسب مصالحها.
كانت انتفاضة اللبنانيين في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 ثورة ضد سلطات الأمر الواقع وضد فسادها على نحو خاص، فعلى مدى الأعوام الماضية أيقن اللبنانيون أن الفساد بات أساساً في صلب سياسة المنظومة الحاكمة وإدارتها للبلد.
تأكدوا من ذلك في معايشتهم الصفقات والتركيبات، وفي معاينتهم صرف أكثر من 40 مليار دولار على كهرباء غير موجودة ومثلها على نفايات تتكدس في الشوارع وملايين أخرى ذهبت إلى صناديق وزراء ونواب ومسؤولين. وعندما بدأت بوادر الاعتراض الشعبي كان أرباب الفساد والسلطة يتسابقون على نقل أموالهم إلى الخارج ويمعنون سطواً على أموال صغار المودعين في المصارف، فيصرفونها دعماً لمواد يجري تهريبها إلى سوريا وأنحاء العالم على يد سلطة الميليشيات وأتباعها في دورة جهنمية لم تبق على شيء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التقت الآراء الدولية مع نظيرتها اللبنانية في توصيف طبيعة السلطة المتحكمة بالبلاد، فاتهمتها بارتكاب "الكساد المتعمد" وبنهب المواطنين وانعدام الأخلاق، وفي السياسة صدرت آراء صريحة تتهم السلطة بالرضوخ لـ"حزب الله"، وأن هذا الحزب هو الحاكم الفعلي للبنان. وراهن العالم ومعه اللبنانيون على تغيير سياسي يتحقق في انتخابات نيابية تحدد موعدها في مايو (أيار) المقبل.
لكن آمال التغيير في انتخابات مقبلة تبقى ملتبسة ومحدودة، والبناء على محاسبة تنجم عنها لا تزال ضئيلة، فالمافيا اللبنانية تمتاز عن غيرها في العالم بأنها مندمجة في النظام وعموده الفقري. وهي في إمساكها بمفاصل البلد أشبه بالأوعية المتصلبة رغم ما يظهر على السطح أحياناً من خلافات ونفور بين أطرافها. هناك مافيات قوية في أنحاء العالم لكنها لم تكن يوماً "كل السلطة".
المافيا الإيطالية و"إخوان الشمس" الروسية و"ياكوزا" اليابانية وغيرها نمت إلى جانب السلطات وكان لها فيها أنصار وعملاء، وهذا سهل إمكانية ملاحقتها عندما اتخذت تلك السلطات قرارها بتحويلها إلى القضاء. أما في لبنان فالأمر يختلف. فالحدود ضائعة بين تجار الكبتاغون والمقاولين والتجار والسياسيين والأحزاب الطائفية، ولذلك بدا القاضي طارق بيطار وحيداً ومحاصراً من المتحكمين جميعهم لدى سيره في تحقيقاته بشأن انفجار مرفأ بيروت، قبله أجبر قاض آخر هو فادي صوان على الانسحاب للأسباب نفسها وتحت ضغط الأطراف أنفسهم.
الانفجار نفسه كان حصيلة مكثفة لممارسات نخب سياسية وقضائية وأمنية وموظفين وإداريين ينتمون إلى السلطة إياها التي قادت بيروت إلى الانفجار والبلاد إلى الانهيار، وأي تحقيق جدي في ملابساته سيقود إلى مسؤولية تلك السلطة بالذات. وهذا ما قاله على طريقته الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وصفه لما جرى في المرفأ.
اتحدت قوى السلطة في وقت مبكر، وعلى رأسها حسن نصر الله الأمين العام لـ"حزب الله"، في هجوم منسق على التحقيق وقضاته، فأطاحت فادي صوان ثم هددت خلفه طارق بيطار لكنه لم ينحن واستمر في عمله ليتحول فعلياً إلى رمز في لبنان يمكن تسميته برجل العام قولاً وفعلاً .
تحول المحقق العدلي ووراءه المجلس ورئيسه سهيل عبود إلى شعلة مضيئة في سماء لبنان الكالحة، يتجمع حوله الحالمون بسيادة الدولة والقانون والعدالة، وكل هؤلاء الذين يأملون بتغيير حقيقي يطيح تحالف السلاح والفساد.
صحيح أن الآمال معقودة على انتخابات نيابية تعيد تركيب التوازنات المحلية، إلا أن المثال الذي قدمه المحقق العدلي في قضية انفجار بيروت يفترض أن يكون عاملاً فاعلاً في اختيارات المواطنين، فالبلاد تحتاج إلى قضاء مستقل ونزيه قدر حاجتها إلى سياسيين منتخبين من خارج منظومة الفساد، وعندما يلتقي النموذجان سيتاح لنا القول ببداية جديدة للبلد المستباح.