تُعقد القمم الإسلامية والخليجية والعربية في مكة المكرمة وسط أجواء استثنائية يسودها التوتر بين دول الخليج وإيران، في أجواء شُبهت في بعض جوانبها بالقمة التي أعقبت غزو صدام حسين للكويت في تسعينات القرن الماضي.
ومع أن طرفي الأزمة في ذلك الحين كانا عربيين، والآن أجنبي (إيران) وعربي، إلا أن رهانات طهران في تقدير المحللين السياسيين على اختراق الصف العربي عبر وكلائها كفيلة بحجز مقعد لها بين العرب، بينما تتكئ السعودية التي أصبحت هذه المرة هي المهددة أكثر من إيران، على ما تبقى من الحمية العربية لإعاقة استباحة نظام ولاية الفقيه الأمن القومي العربي، عبر تكثيف الضغط على طهران لتغيير سلوكها نحو العرب أجمع وليس الخليج والرياض وحسب.
أي الرهانين سترجّح كفته؟
وإذا كانت طهران بخلاف الرياض تريد عواصم عربية مثل بيروت وبغداد ودمشق ضعيفة للتوغل فيها أكثر، فأي الرهانين يمكن أن ترجح كفته أثناء قمم مكة وبعدها؟
المحلل السياسي السعودي الدكتور عبد الرحمن الجديع أكد ثقته في أن بلاده قادرة على "حشد موقف عربي خليجي إسلامي موحد وشجاع في وجه التهديدات الآتية على وجه التحديد من إيران وحلفائها ووكلائها وميليشياتها"، بوصف السعوديين ينطلقون في تقديره من موقف عقلاني، "فنحن لا نريد إدخال المنطقة والعالم في أتون حرب مدمرة، نتيجة حماقات بعض الساسة المتغطرسين، لكنها (السعودية) ترغب وستعمل من خلال القمم الثلاث، على وقف تلك الحماقات وردع كل من تسوّل له نفسه العبث بأمن المنطقة واستقرارها، والعمل على خلق مقاربات جديدة للتعامل مع التصرفات الإيرانية غير المسؤولة".
الأزمة عربية قبل أن تكون خليجية
لكن الجديع وهو ديبلوماسي سابق قريب من مصادر القرار، اعتبر أن جنوح السعوديين إلى السلم هذه المرة لن يمنع من "رفع سقف التحدي إلى أعلى طاقة ممكنة، بدعم من موقف دولي عالي المسؤولية يدرك مرامي إيران وألاعيبها وحيلها من أجل شراء الوقت وتكريس صورة المظلومية التي استثمرتها طويلاً من أجل استدرار التعاطف"، مضيفاً أن الأمر لم يعد الآن كما كان عليه من قبل "السعودية أوصلت لطهران رسائل واضحة بأن وقت العبث بالمنطقة قد ولى، وعلى هذا المنطق الواضح والحسم تعوّل السعودية وتراهن، في ضوء تداعيات الأعمال التخريبية في المنطقة".
وزاد أن الرياض "دأبت على التنسيق والتشاور مع أشقائها العرب لدرء الأخطار، مع تأكيد استقلالية قرارها السياسي الذي هو ملكها كدولة مستقلة ذات سيادة، إنما إيمانها بأهمية وحدة الصف العربي يدفعها لأخذ مثل هذه المبادرات لحماية أمن الوطن العربي وصونه".
موقف سعودي داعم لاستقرار المنطقة
ولفت إلى أن رهان السعودية في جميع الملفات التي تنشط فيها، كان داعماً لـ "استقرار المنطقة ونهضتها وإنمائها عبر سياسة التسامح وحسن الجوار والتعاون الذي يجمع البشر تحت مظلته، لكنّ إيران تراهن على أمر مختلف كلياً، فهي تتوهم أنّ وكلاءها في بعض الدول العربية سيحمونها ويشتتون الموقف العربي ويمزقونه، ويعطلون مسيرة التحدي الذي فُرض على القمم الثلاث التي تحتضنها أطهر بقعة في الأرض في "رمضان المبارك".
وعما إذا كان الجديع يعتقد أن ذلك الرهان الإيراني سينجح أم لا، يقول "سيفشل لأنه رهان على الشر والبغضاء وزرع الفتنة، وأما السعودية والدول العربية والخليجية والإسلامية فرهانها على البناء والازدهار ومستقبل أجيال المنطقة، ونتمنى أن تدرك إيران أن الاستمرار في هذا النهج المتهور سيجلب الدمار عليها ويعرض المنطقة للأخطار والعواقب الوخيمة".
نجاح تدخلات إيران أغرت دولاً أخرى
لكن مواطنه الآخر المحلل السياسي الدكتور زهير الحارثي يقر "من باب الموضوعية" بحسب قوله، أن إيران نجحت إلى حد كبير في اختراق الصف العربي "بسبب غياب استراتيجية عربية لمواجهة تحركاتها، مما فسح المجال لقوى أخرى للتدخل، مثل إيران في الشأن العربي، مثل تركيا وإسرائيل، عن طريق التأزيم أو صب الزيت على الإشكالات القائمة".
لذلك يرى الحارثي وهو عضو أيضاً في مجلس الشورى (البرلمان) في بلاده، أن التحديات العربية التي أشار إليها، تستدعي من العرب في قمم مكة وهم مكون أساس في منظمة التعاون الإسلامية "أن يعيدوا تموضعاً جديداً لإدارة الأزمات التي يواجهون ومن ضمنها التدخلات الإيرانية، ووضع برامج ومشاريع يمكن تنفيذها، للخروج بنتائج فاعلة ملموسة، وليس إلقاء بيانات لن تجدي شيئاً أمام الممارسات الإيرانية التي تخطت كل الحدود".
التحضير للجولة المقبلة من الصراع
أما الباحث السياسي المتخصص في الشأن الإيراني الخليجي عبد المجيد سعود، فيقرأ رهانات السعودية في القمم الثلاث من زاوية الصراع مع إيران، بوصفها تحضيراً للتحول المقبل في المواجهة مع طهران، إن كان تفاوضياً أو عسكرياً.
أضاف "المرحلة المقبلة من الصراع مع إيران بدأت تتشكل في الأفق، سواء كان شكل ذلك الصراع تفاوضياً حول ترتيبات أمن المنطقة، أو كان عبر استمرار الضغوط الاقتصادية والسياسية، وسياسات الردع التي تقوم بها الولايات المتحدة بالتعاون مع حلفائها في المنطقة"، لذلك فإنه يعتقد أن إيران إذا اختارت الذهاب للمفاوضات وقبلت بتقديم التنازلات والتراجع عن سياساتها المثيرة للاضطراب في الأمن الإقليمي فإن القمم "ستعزز الموقف السعودي في مسار التفاوض على ترتيبات أمن المنطقة، خصوصاً أن الصراع مع إيران متعدد الوجوه وليس سعودياً فقط، فهو إيراني- أميركي من جهة، وإيراني- إقليمي من جهة أخرى".
استمرار الضغوط على إيران
أما في حال عدم قبول إيران التفاوض برفض مناقشة برنامجها الصاروخي أو التخلي عن ميليشياتها، وهما أعمدة السياسة الإيرانية الإقليمية، فإن هذا بالنسبة إلى الباحث سعود يعني "استمرار الضغوط عليها وما قد ينتج من ذلك من محاولات إيرانية لاستهداف أمن الخليج كما حصل في عمليات الفجيرة والدوادمي (مضخة النفط)".
أياً يكن المسار الذي سيتجه إليه الصراع مع إيران، سواء كان تفاوضياً لترتيبات شاملة لأمن المنطقة أو مواجهة متصاعدة معها فإن "السعودية ترى في هذه القمم وسيلة لتعزيز قوتها في الحالتين، بينما تراهن إيران من جهتها على أن هذه القمم سوف لن تخرج بموقف موحد من السياسات الإيرانية في المنطقة، بل ربما أكثر من ذلك، على بروز التعارض والاختلاف بين مواقف الدول العربية والإسلامية تجاهها" بحسب الباحث.
اتفاق عدم الاعتداء استغباء لـ "القمم"؟
وكان محللون عرب وسعوديون قرأوا في مبادرة "معاهدة عدم الاعتداء" التي اقترحتها إيران قبل أيام من عقد قمم مكة، محاولة لخلط أوراق القمم والتخفيف من حدة لهجتها ضد طهران التي يشكك أولئك المحللون في صدقيتها، فيتساءل المحلل السياسي تركي الحمد قائلاً "هل تظن إيران الملالي أننا بتلك السذاجة أو حتى الغباء؟، تريد اتفاق عدم اعتداء مع السعودية ودول الخليج، وهي تعلم تماماً أنها قادرة على فعل ما تشاء من خلال أذرعها الأخطبوطية، وخلاياها النائمة في كل دول الخليج، ناهيك عن دول الشمال العربي، لك أن تكذب علي، ولكن إياك أن تستغبيني".
هل تظن إيران الملالي اننا بتلك السذاجة أو حتى الغباء؟..تريد اتفاقية عدم اعتداء مع السعودية ودول الخليج، وهي تعلم تماما أنها قادرة على فعل ما تشاء من خلال اذرعتها الأخطبوطية، وخلاياها النائمة في كل دول الخليج، ناهيك عن دول الشمال العربي. لك أن تكذب علي، ولكن إياك أن تستغبيني..
— تركي الحمد T. Hamad (@TurkiHAlhamad1) May 30, 2019
بينما يعتقد المحلل سعود في حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن الخطوة الإيرانية تأتي في سياق نهجها التكتيكي الذي برعت فيه، وهو بذلك يوافق الكاتب الإيراني حسن فحص الذي أحاط المبادرة الإيرانية بعلامات استفهام عدة هو الآخر.
وقال سعود "في العادة إيران تستخدم مثل هذا الأسلوب عندما تواجه ضغوطاً وهو نوع من تكتيكات التفاوض التي برعت في استخدامها، فهي تستهدف تفكيك الجبهة المضادة لها، وأيضاً تمنح ربما بعض الدول التي لا ترغب في الانخراط مع السعودية في مواجهة إيران مبرراً وحجة لاتخاذهم مواقف أقل حزماً وأكثر حيادية، وربما أنها تسعى أيضاً لتحييد دول الخليج عن أي عملية تفاوضية آتية مع الولايات المتحدة، كما أن طرح مثل هذا الاتفاق سوف يعزز من مواقف الأصوات السياسية في واشنطن المعارضة للتصعيد مع إيران".
مطلوب عواصم هشة لتغيير التوازنات
ولفت إلى أن جوهر المشكلة مع إيران ليست في عدم وجود اتفاقات عدم اعتداء، فهناك اتفاقات مشابهة كثيرة يجري توقيعها في المنطقة، ولكن لا يحصل الالتزام بها، لأن هذه الاتفاقات غالباً لا تعكس حقيقة التوازنات على الأرض، "مشكلة إيران الأساسية التي تدفعها إلى الانخراط في سياسات زعزعة الاستقرار هي أن لديها موقفاً عدائياً من طبيعة النظام الإقليمي وتوازناته التقليدية، والعقل الاستراتيجي الإيراني يرى أن أمن إيران لا يتحقق إلا عبر استمرار حالة الأمن الهش في المنطقة، وما لم يتغير ذلك، فإن الاتفاقات لن تغير شيئاً في السلوك الإيراني".
ثم إن تهديد إيران لأمن الدول في المنطقة، يقول الخبير في شؤونها سعود، لا يأتي مباشرة من الجيش الإيراني أو قواتها التقليدية، ولكن يأتي من استخدامها للحرس الثوري وميليشياته، وهو منظمة عابرة للحدود وغير ملتزمة بمفهوم الدولة الحديثة وسيادتها، فبالتالي إيقاف استخدام الحرس الثوري يحتاج أكثر من اتفاق عدم اعتداء، وهو يحتاج إلى إطار أمني شامل للمنطقة يقوم على احترام سيادة الدول.
أما الموقف السعودي فإنه لا يأتي خوفاً من اعتداء إيراني مباشر على السعودية، لأن هذا اعتقاد غير وارد، ولكنه يأتي لإيقاف محاولات إيران تغيير توازنات المنطقة عبر تفكيك بنية الدول في العراق وسوريا ولبنان واليمن وإعادة تركيبها بما يوافق أهداف الهيمنة الإيرانية في المنطقة، فهل ستلتزم إيران في اتفاق عدم الاعتداء بتفكيك منظومة الميليشيات التي تهدد سيادة الدول وتقوض استقرارها؟
تحذير طهران من ارتكاب خطأ جسيم
وكان مندوب السعودية لدى الأمم المتحدة عبد الله المعلمي حذر في حوار مع "اندبندنت عربية" إيران من ارتكاب خطأ جسيم، بظنها أن تكرر نجاح تدخلها في شأن بعض الدول في لبنان أو العراق، على نطاق الأمة العربية أجمع.
وقال "على الرغم مما يعتري الأمة العربية من ضعف، وعلى الرغم من التمزق والتفكك الذي تشهده في السنوات الأخيرة، مع الأسف، إلا أن هناك قاعدة صلبة للأمة العربية هي السعودية، وستظل هذه البلاد إن شاء الله حصناً منيعاً في وجه طموحات أي جهة ترغب في الاعتداء على مقدسات الأمة العربية وعلى طموحاتها وآمالها".