بعد عامين على مقتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة "الحشد الشعبي"، أبو مهدي المهندس، يبدو أن الميليشيات الموالية لإيران لا تزال تعيش في إطار سلسلة طويلة من التداعي، كان آخرها خسارتها الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
ولا تتوقف إشكالات الميليشيات عند حدود خسارة مقاعدها البرلمانية فحسب، بل يبدو أن حجج استمرار سلاحها باتت شحيحة هي الأخرى، وتحديداً بعد انسحاب القوات القتالية الأميركية، الأمر الذي يجعل تلك الميليشيات أمام تحدٍّ كبير جداً بما يتعلق بوجودها خلال الفترة المقبلة.
ويرى مراقبون أن مخاوف التيارات الموالية لإيران خلال الفترة المقبلة من احتمال انحسار تأثيرها أو استهدافها ستدفعها إلى الضغط للحفاظ على نفوذها في هيئة "الحشد الشعبي" التي تمثل المساحة التي تتيح لها استمرار سيطرتها على مفاصل أمنية واقتصادية وسياسية في البلاد.
إيران تتوعد مجدداً
وبالتزامن مع الذكرى الثانية لمقتل سليماني والمهندس، تعهد الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، في الثالث من يناير (كانون الثاني)، الثأر لمقتل سليماني ما لم تتم محاكمة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب. وقال رئيسي في كلمة تلفزيونية، "إذا لم يُحاكم ترمب ووزير الخارجية السابق مايك بومبيو، أمام محكمة عادلة لارتكاب جريمة اغتيال الجنرال سليماني، فإن المسلمين سيثأرون لشهيدنا".
وكانت وسائل إعلام إيرانية ذكرت أن إيران دعت مجلس الأمن الدولي في رسالة، في الثاني من يناير، إلى محاسبة الولايات المتحدة وإسرائيل، التي تقول طهران إنها متورطة أيضاً.
طائرتان مسيّرتان
وتعرّضت المنطقة الدبلوماسية في مطار بغداد، في الثالث من يناير، لهجوم بطائرتين مسيّرتين تمكّن نظام الدفاع من إسقاطهما من دون أن تتسبّبا بأي أضرار مادية أو بشرية، بحسب بيان للتحالف الدولي، وأظهرت صور مرفقة مع البيان احتواء بقايا المسيّرتين على عبارة "عمليات ثأر القادة"، في إشارة إلى سليماني والمهندس.
في المقابل، أكد يحيى رسول، الناطق العسكري باسم رئيس الوزراء، فتح تحقيق في واقعة محاولة استهداف "قاعدة فيكتوريا" في مطار بغداد الدولي. وقال رسول، إن "منظومة "سي رام" تمكنت من إسقاط الطائرتين المسيّرتين اللتين حاولتا استهداف قاعدة فيكتوريا، من دون حصول أضرار مادية أو بشرية". وأضاف أن "الجهات المعنية، من مختلف القوات الأمنية، فتحت تحقيقاً في الأمر، لمنع تكراره".
"الاحتلال" مرة أخرى
ونظّم المئات من الموالين لـ"الحشد الشعبي" وقفة، الأحد، 2 يناير لاستذكار الحادثة، وحضرت شخصيات بارزة في التيارات الموالية لإيران من بينها زعيم تحالف "الفتح"، هادي العامري، ورئيس هيئة "الحشد الشعبي"، فالح الفياض، الذي قال إن حادثة المطار التي استهدفت المهندس وسليماني، "فرضت واقعاً جديداً في العراق".
أما زعيم ميليشيات "عصائب أهل الحق"، قيس الخزعلي، فقال إن "الثأر لنائب رئيس هيئة (الحشد الشعبي) أبو مهدي المهندس، وقائد فيلق القدس قاسم سليماني، يكون بإخراج القوات الأميركية من المنطقة وإنهاء وجود إسرائيل". وتابع أن "القوة التي أخرجها العراقيون عام 2012 عادت لاحقاً بحجة وجود (داعش)"، مضيفاً، "لا يهتم الأميركيون إلا بأمن إسرائيل وإضعاف العراق والسيطرة عليه".
ولفت رئيس تحالف "الفتح" هادي العامري، في كلمة أمام المتظاهرين، إلى أن "فتوى المرجعية والدور الايراني وبطولات قادة النصر حمت العراق من خطر (داعش)". وأضاف أن "ثمن دماء قادة النصر سيكون خروج كامل القوات المحتلة من العراق".
وتأتي هذه الخطابات بعد أيام من إعلان التحالف الدولي سحب قواته المقاتلة والإبقاء على مستشارين بالتنسيق مع الحكومة العراقية لأغراض تدريب وتأهيل القوات العراقية.
انحسار نفوذ الميليشيات
ويبدو أن عهد الولائيين في العراق بدأ بالانحسار، بحسب مراقبين، فبعد أن مثلت حكومة رئيس الوزراء المستقيل عادل عبدالمهدي ربيع نفوذ الميليشيات في العراق، توالت الضربات على هذه التيارات، ابتداء من الانتفاضة العراقية الرافضة النفوذ الإيراني وأذرعه في البلاد، والتي أدّت بشكل لافت إلى خسارة الميليشيات مساحات واسعة من التأييد الشعبي تحديداً في الساحة الشيعية، مروراً بتفكك ألوية المرجعية من هيئة "الحشد الشعبي"، وصولاً إلى خسارة غالبية مقاعدها البرلمانية في الانتخابات الأخيرة.
ولم تكن انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) وحدها الضربة الكبرى لتلك الميليشيات، بل كان لمقتل سليماني والمهندس، اللذين يمثلان هرم القيادة بالنسبة للتيارات المسلحة في العراق أثر كبير، وبدأت تطفو على السطح إشكالات داخلية عدة أدت في النهاية إلى خسارة الميليشيات مقاعدها البرلمانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ورأى رئيس المركز "العراقي الأسترالي"، أحمد الياسري، أن التيارات الميليشياوية في العراق تعرضت إلى ثلاث ضربات رئيسة زعزعت قوتها بشكل ملحوظ، وعلى رأسها "ثورة تشرين التي خسّرت تلك التيارات تعاطف المجتمع الشيعي"، وبالإضافة إلى أحداث أكتوبر 2019، يبدو أن مقتل قائد "فيلق القدس" فتح الباب أمام سلسة طويلة من المتغيرات التي أثرت بشكل مباشر على نفوذ وقوة الميليشيات في البلاد. وأشار الياسري إلى أن هذا الحدث "أتاح للمرجعية مساحة المناورة لسحب ألويتها من هيئة (الحشد الشعبي)، ومن ثم فقدان تلك الميليشيات ذريعة رئيسة كانت تستند عليها لكسب الشرعية". وتابع الياسري أن سلسلة الضربات السياسية المتلاحقة التي تعرضت لها الميليشيات منذ مقتل سليماني والمهندس هي التي أدت في النهاية إلى خسارة الانتخابات الأخيرة.
الصراعات الداخلية
ويبدو أن مقتل المهندس أثر أيضاً بشكل مباشر في "تحفيز الصراعات البينية على ملء هذا الفراغ بين قادة الميليشيات ذاتها"، بحسب الياسري الذي رأى أن "غياب ضابط لسلوك وحراك الميليشيات السياسي أدى إلى توسع تلك الصراعات التي بدت واضحة في الانتخابات الأخيرة، حيث تنافست الميليشيات في ما بينها على دوائر نفوذها ما جعل كلاً منها يسقط الآخر"، مضيفاً أن "الميليشيات استشعرت التداعي متأخرة، وهي الآن تحاول اختزال كل مطالبها في مفاوضات تشكيل الحكومة المقبلة بإعادة السيطرة على (الحشد الشعبي)". وقال إن الميليشيات تدرك "ارتباط وجودها بمواقعها في الدولة، وهو الذي يكسبها حظوتها لدى طهران أيضاً"، مشيراً إلى أن تصاعد الحديث عن "المقاومة والاحتلال المتخيل"، خصوصاً بعد خروج القوات المقاتلة من البلاد، يمثّل "وسيلة لابتزاز الدولة ومحاولة إعادة ترميم أوضاعها فيها". وختم بأن "احتمالات التسوية مع الميليشيات لا تزال قائمة، إلا أنها ربما لن تحظى بالنفوذ ذاته، خصوصاً أن القوى الفائزة في الانتخابات لديها مشاكل مستمرة مع الميليشيات".
"الحشد الشعبي" آخر ملاذات الميليشيات
ومثلت عمليات القتل المباشر في ساحات الاحتجاج والاغتيالات الواسعة التي استهدفت ناشطين مناهضين للنفوذ الإيراني، والتي تتهم فيها تلك الميليشيات، الضربة الكبرى التي أفقدتها كثيراً من التأييد الذي كانت تحظى به في الشارع الشيعي، الأمر الذي جعلها في أكثر من مناسبة في مواجهة مباشرة مع طبقات احتجاجية شيعية كانت تطالب بشكل صريح بإنهاء ملف السلاح المتفلت وسيطرة الميليشيات على مفاصل أمنية واسعة في البلاد.
ورأى الباحث في الشأن السياسي هشام الموزاني أن المرحلة الحالية في العراق تشهد انحساراً كبيراً لهيمنة الولائيين (مصطلح لوصف الميليشيات التي تدين بالولاء للمرشد الإيراني علي خامنئي)، خصوصاً بعد خسارتها الانتخابات الأخيرة، مبيناً أن ما يجري "ليس نهاية للنفوذ الميليشياوي، بل إزاحته إلى منطقة أخرى بعد خسارات متتالية تعرض لها". وقال إن "شغور منصبي سليماني والمهندس زعزع بشكل ملحوظ منظومة الميليشيات، وحفّز صراعاتها الداخلية، لكنه لن يؤدي إلى انهيارها خلال الفترة القريبة المقبلة، خصوصاً مع احتفاظها بسلاحها ونفوذها داخل (الحشد الشعبي)". وتابع أن "(الحشد الشعبي) يمثّل عنواناً قادراً على احتواء الكثير، لأنه مؤسسة دولة في الإطار العام، لكنه في الحقيقة منصة تكسب تلك الميليشيات شرعية قانونية واعتبارية"، مبيناً أن هذا الأمر هو الذي يدفع الميليشيات إلى "محاولة العودة لعنوان "الحشد" كمساحة تمكنها من استمرار نوع من نفوذها في المرحلة المقبلة. وختم بأن "خطورة ملف الميليشيات في العراق تكمن في ارتباطه المباشر بالملف الإيراني وحوارات الاتفاق النووي، لذلك، فإنها ستبقى ورقة تستخدمها طهران للضغط والنفوذ، سواء أعيد العمل بالاتفاق النووي، أو في حال فشلت المباحثات".
الاستشارة والتدريب
ومنذ اغتيال سليماني والمهندس، استمرت عمليات استهداف المصالح الأميركية في البلاد من بينها محيط السفارة الأميركية في بغداد، بالإضافة إلى قواعد عسكرية، وتراجعت وتيرة الهجمات على المصالح الأميركية خلال السنة الماضية، خصوصاً بعد تهديد إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب بإغلاق سفارة بلاده في بغداد.
وعلى الرغم من استمرار استهداف المصالح الأميركية في العراق، تنفي الميليشيات الرئيسة الموالية لإيران صلتها بتلك العمليات بشكل مستمر.
وأعلن العراق رسمياً في التاسع من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أن وجود قوات قتالية أجنبية في البلاد سينتهي مع نهاية عام 2021، وأن المهمة الجديدة للتحالف الدولي ستقتصر على تقديم الاستشارة والتدريب.