للمرة الثالثة، ينجح بنيامين نتنياهو في إنقاذ نفسه من ورطات سياسية وورطات فساد، وبقود إسرائيل إلى انتخابات في غير موعدها. في المرتين السابقتين أنقذ نفسه، ويبدو أن جهوده هذه المرة ستكلّل بالنجاح أيضاً، وسيكون منقذه فيها رئيس حزب "كلنا"، موشيه كحلون.
قرار حلّ الكنيست والتوجّه إلى انتخابات جديدة هو خطوة عبثية، حتى نتنياهو نفسه اعترف، بعد المصادقة في القراءة الأولى على مشروع حلّ الكنيست، أنها "خطوة لا حاجة لها ولا يوجد أي سبب في العالم يبرّر أن نعيد هذه الانتخابات ونشلّ الدولة بأكملها ونهدر الملايين".
فإعادة الانتخابات لتعثّر تشكيل حكومة يمين واسعة، تتيح لنتنياهو من جديد إحداث تعديلات على قوانين من شأنها منع محاكمته، وهي خطوة تضرب في الصميم ما تسمّيه إسرائيل "الديمقراطية". فنتنياهو يبقى كما هو، لا يتردّد في استخدام أية وسيلة تضمن له كرسي الحكومة أو تمنع وقوفه كمتّهم في المحكمة، وبغية ذلك يضرب القوانين بعرض الحائط ويقوم بكلّ ما في وسعه لتجاوزها ولتجاوز قرار سبق واتخذته حكومته.
فقد خاض نتنياهو الانتخابات الأخيرة، وكانت انتخابات مبكرة، كخطوة استباقية لقرار المستشار القضائي للحكومة في مسألة تقديم لوائح الاتهام ضدّه في قضايا الرشوة والفساد. كذلك، بعدما وجد نفسه عاجزاً عن تشكيل حكومة أكثرية ذات قاعدة يمينية متينة ومطيعه له ولقراراته، أعاد نتنياهو من جديد المحاولة ذاتها لينقذ نفسه من المحاكمة.
الانتخابات وصفقة القرن
عملياً، بدأ نتنياهو معركته الانتخابية الجديدة فور حلّ الكنيست الجديد. فأعلن داخلياً عن إنجازاته العديدة مع أحزاب ثانية، وعلى الصعيد الدولي، قاد مسار دعايته الانتخابية كقائد سياسي له مكانته الدولية. والتقى في هذا السياق كبير مستشاري الرئيس الأميركي، جاريد كوشنر، والمبعوث الأميركي للشرق الأوسط، جيسون غرينبلات، لبحث تأثير الإعلان عن انتخابات إسرائيلية جديدة على فرص نجاح الخطّة الأميركية للسلام في الشرق الأوسط، والمعروفة بـ"صفقة القرن".
وفي هذا اللقاء، شدّد نتنياهو على مواصلته التعاون مع الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترمب، على الرغم من التوترات التي تشهدها الساحة السياسية في بلاده، وأكّد أن "التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل أقوى من أي وقت مضى، بل إنّه سيتعزّز". وكما كان متوقّعاً، حصل نتنياهو على تطمينات أميركية، إذ تجاوب كوشنر مع كلامه وأكّد بدوره التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل، ممّا يعدّ بالنسبة لنتنياهو إنجازاً يحتفي به أمام الإسرائيليين وناخبيه.
قلق الأميركيين
زيارة كوشنير وغرينبلات، وفق الإسرائيليين، جاءت في إطار قلق الأميركيين من مدى تأثير الإعلان عن انتخابات إسرائيلية جديدة، ستقام في سبتمبر (أيلول) المقبل، على فرص نجاح "صفقة القرن"، التي ستعلن الإدارة الأميركية عن شقّها الاقتصادي في مؤتمر البحرين المرتقب.
ويتشارك نتنياهو هذا القلق مع الأميركيين، إذ لم يتحدّث مباشرة عن الأزمة الحزبية في إسرائيل، بل راح يقول "ليلة التصويت في الكنيست واقعة صغيرة، وهذا لن يوقفنا. سنواصل العمل معاً. عقدنا لقاءً ممتازاً ومثمراً، يؤكّد مرةً أخرى أنّ التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل أقوى من أي وقت مضى".
وبينما لم يتوصّل المجتمعون إلى تلخيص حول مدى تأثير الانتخابات الإسرائيلية الجديدة في فرص إعلان الإدارة الأميركية عن "صفقة القرن"، نجح نتنياهو في إظهار نفسه قائداً سياسياً فذاً.
"الزواج الكاثوليكي من الأصوليين"
اختلف الإسرائيليون حول مدى رغبة نتنياهو في خوض هذه الانتخابات، لكنهم جميعاً اتفقوا على أنها تأتي لإنقاذه من المحاكمة.
وفي حسابات بسيطة في أعقاب تصريحات زعماء أحزاب اليمين الداعمة لنتنياهو، يتبيّن أن هناك احتمالات لتعزيز قوة الرجل في هذه الانتخابات، فاليمين خسر في الانتخابات الأخيرة أربع – خمس مقاعد بسبب نسبة الحسم العالية. ويستطيع نتنياهو استعادة بعض منها، علماً أن تحالفه مع كحلون سيضمن له أربعين مقعداً، على الأقل.
ويرى سياسيون أن جذور فشل نتنياهو والذهاب إلى انتخابات جديدة، تعود إلى قراره عام 2015 بالتحالف مع أحزاب اليمين، الذي أسماه البعض "الزواج الكاثوليكي من الأصوليين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صراع نتنياهو– ليبرمان
فور الإعلان عن حلّ الكنيست، خرج نتنياهو إلى الإعلام في حملة تصعيدية ضدّ من اعتبره السبب المركزي في إفشال مفاوضات تشكيل الحكومة، أفيغدور ليبرمان. واتهمه بإلزام الجميع خوض انتخابات جديدة غير ضرورية "من أجل حساباته الشخصية"، وأضاف "الجمهور الإسرائيلي قال كلمته منذ أسابيع، وأجمع على تشكيل حكومة يمينية بقيادتي. لقد حظيت معظم أحزاب اليمين، بدعم بعد أن تعهدت لناخبيها بأنها ستوصي على تكليفي بتشكيل الحكومة، ليبرمان خدع ناخبيه. لم تكن لديه أي نية بتقديم تنازلات، وضع العصي بالدواليب، بحث عن المشكلة تلو الأخرى، وكلّما قدّمنا وقدّم المتديّنون المزيد من التنازلات بشأن مطالبه، افتعل مشكلات أخرى مصطنعة".
ليبرمان من جهته لم يتأخّر بالردّ، قائلاً "نتّجه إلى انتخابات جديدة بسبب تعنّت الليكود وإصراره على تحويل الدولة إلى دولة إكراه ديني، بالشراكة مع الأحزاب المتزمّتة دينياً، ولن نكون شركاء بحكومة من هذا النوع. الليكود فشل مجدداً بتشكيل الحكومة. لم نتوصّل إلى أي اتفاق بأي موضوع".
وعقب المصادقة على حلّ الكنيست، تعرّض نتنياهو أيضاً لهجوم من رئيس قائمة "أبيض-أزرق"، بيني غانتس، الذي اعتبر أن الليكود يقود البلاد إلى انتخابات جديدة فقط من أجل عملية قضائية، أي كخطوة لمنع محاكمة نتنياهو بتهم الفساد الموجّهة ضدّه.
ما بين التجنيد والمتدينين
وفي التفاصيل، تعود الأزمة الحكومية إلى إصرار ليبرمان على عدم إجراء أي تغيير على قانون التجنيد، الذي سبق وعرضه على الكنيست وصودق عليه. ويلزم هذا القانون طلاب المدارس الدينية بالخدمة العسكرية، الأمر الذي يرفضه بشدة حزبا "يهدوت هتوراه" و"شاس". وإصرار ليبرمان هذا، أثار ضدّه اتهامات، من نواب ووزراء في حزب الليكود، بالسعي إلى إسقاط نتنياهو من أجل خلافته في زعامة اليمين. فقد غرّد المتحدث بلسان الليكود، يونتان أوريخ، قبل ساعات من الموعد النهائي لتشكيل الحكومة، قائلاً "السبب ليس التجنيد ولا المبادئ. ليبرمان يريد تصفية نتنياهو. كل ما بقي هو مناورات". وحظي هذا الحديث بدعم كثيرين يرون أن الحديث يدور عن ثأر شخصي، وعن رغبة ليبرمان في الوصول إلى رئاسة الحكومة.
نتنياهو من جهته، حاول تجاوز الأزمة عبر عرض ثلاث حقائب وزارية على حزب العمل، إضافة إلى إعطائه ضمانات بعدم سن قوانين شخصية تتعلّق بالحصانة أو الالتفاف على قرارات المحكمة العليا. كما عرض نتنياهو على حزب "أبيض-أزرق" خمس حقائب وزارية، مقابل الانضمام للحكومة، إلا أنّ جميع هذه المساعي باءت بالفشل.
كما اقترح نتنياهو على الأحزاب الدينية الموافقة على قانون التجنيد والمصادقة عليه بصيغته الحالية، التي تلبّي مطالب ليبرمان، على أن يتمّ التوصل إلى صيغة توافقية بشأنه قبل عرضه على القراءتين الثانية والثالثة، أو العودة إلى قانون التجنيد الإلزامي الأصلي، من دون الفقرة المتعلقة بإعفاءات للحريديين. وانتهى هذا الاقتراح أيضاً بالفشل.
انقلاب كحلون على وعوده
جاءت المفاجأة الأولى في المعركة الانتخابية الجديدة، بتحالف الليكود مع حزب "كلنا"، برئاسة موشيه كحلون، الذي أصر في الانتخابات الأخيرة على أنه لن يقبل الدخول إلى ائتلاف مع نتنياهو، عارضاً نفسه كبديل يميني لليكود نتنياهو، "المستعدّ ليبيع حتى فكر زعيميه جابوتنسكي وبيغن مقابل تثبيت حكمه، المستعد لحرق البيت كي ينقذ الكرسي"، وفق كحلون الذي قال أيضاً حينها "رئيس حكومة تلوح فوقه لائحة اتهام، لا يمكنه أن يؤدي مهامه".
غير أنّ هذه الوعود لم تعد لها تغطية. وعلى الرغم من أن كحلون أوضح مرات عدة أنه لن يوافق على أن يكون عضواً في حكومة نتنياهو، إذا ما رفعت ضدّه لائحة اتهام، قرّر الارتباط به على الرغم من أنه نال دعم ناخبيه كقائد حزب نزيه، لن يكون شريكاً في حكومة "متهم رئيسها جنائياً، ويقضي أيامه في المحكمة ويدير الدولة جانبياً".
هذا الواقع جعل موقف كحلون الجديد مرفوضاً حتى من داخل حزبه. النائب روعي فولكمان، رئيس كتلة "كلنا"، الذي يعتبر اليد اليمنى لكحلون، قال موجهاً حديثه لزعيم حزبه "في الماضي قلت إنك لن تجلس مع رئيس حكومة مع لائحة اتهام، واليوم غيّرت رأيك. ولتغيير الرأي هذا اسم، هو الجبن. لم يتبقَ سوى الاستنتاج بأن نتنياهو نجح في إفساد كحلون وكتلته أيضاً، مثلما فعل بكل محيطه القريب".
كما دعا نواب في قائمة "أبيض-أزرق" إلى إلغاء اتفاق التناوب على رئاسة القائمة بين رئيسها الحالي، بيني غانتس، ورئيس حزب "يوجد مستقبل"، يائير لبيد، من أجل تمكين هذه القائمة من تشكيل ائتلاف حكومي مع الأحزاب المتزمتة دينياً، بحسب ما ذكر مسؤولون في الحزب.
وصرّح سياسيون في هذه الأحزاب، بينهم نائب وزير الصحة ورئيس كتلة "يهدوت هتوراة"، يعقوب ليتسمان، بأنه طالما أن اتفاق التناوب في "أبيض-أزرق" قائم، فإنه لن يكون هناك أي تعاون سياسي بين الحزبين.
وفي حال أفضت نتائج الانتخابات المقبلة إلى نتائج مشابهة للانتخابات السابقة، سيكون صعباً على نتنياهو تشكيل حكومة. وفي هذا الإطار، يرى قياديون في "أبيض-أزرق" أن اتفاق التناوب يشكّل عقبة كبيرة أمام تشكيل قائمة لحكومة.
وقال القيادي في قائمة "أبيض-أزرق"، موشيه يعالون، في تصريح إعلامي، إنّ الأحداث الأخيرة تستوجب "إعادة التفكير" تجاه المتزمتين دينياً. وعلى الرغم من أن يعالون لم يذكر مسألة التناوب، إلا أن هذا الأمر بات يتردّد لدى الكثير من النشطاء المركزيين في القائمة.
قانون التجنيد ذريعة
من ناحية أخرى، رأى خبراء سياسيون إسرائيليون أن قانون التجنيد هو ذريعة استخدمها ليبرمان لإفشال نتنياهو، وذلك بسبب قضايا كثيرة بين الرجلين.
وفي هذا الصدد، يقول الخبير نوعا لانداو "هناك كثير من الأمور الخفية لا يمكن أحداً أن يفهمها، والقضية التي أثيرت حول تجنيد المتدينين للجيش ليست هي الذريعة لهذا التأرجح. بالضبط كما في انتخابات عام 2015، حين كان واضحاً للجميع أن الذريعة هي ليست التآمر الظاهر للوزيرين السابقين تسيبي لفني ويئير لبيد، اللذين منعا الليكود من تشكيل الحكومة، ومع ذلك فإن حلّ الحكومة تم طرحه، في حينه، على الجمهور في ظلّ غياب بيّنات قاطعة أخرى".
أضاف "كذلك في المرة الثانية، فقد اتُهم من أعلن أن الذريعة الحقيقية للانتخابات هي إجازة قانون "إسرائيل اليوم"، بالمبالغة والخيال وحتى بالتآمر". ولكن المدهش، يضيف لانداو، هو أنّ "هذه الأحداث أدت في نهاية الأمر إلى اعتراف نتنياهو أخيراً، في إطار الاتهامات ضدّه في ملف 2000، أنّ هذا هو السبب الحقيقي الذي يقف وراء العملية".
ويرى لانداو أن القرار الأخير لحلّ الكنيست والتوجه نحو الانتخابات ترافقه روايات عدة، وفي مركزها الصراع الشخصي بين ليبرمان ونتنياهو.
ويرى المحلل السياسي عميت سيغل، أنه "في كلّ مرة توجد معضلة في السياسة الإسرائيلية بين سلوك من نوع -بيت أوراق اللعب- وسياسة السوق، الإجابة الصحيحة هي الثانية. هذا أكثر صحةً، لكن ليس دائماً. فمثلاً، هذا غير صحيح تماماً في كل الحالات التي يكون فيها أفيغدور مشاركاً ليبرمان. يمكن قول الكثير من الأمور السلبية عنه، والقائمة طويلة. لكن لا يمكن أن نقول إنه غبي أو أنه شخص حساس".
ويكتب عميت سيغل "بين نتنياهو وليبرمان، تتدفّق كمية كبيرة من المياه والمصالح والمؤامرات والحيل الظلامية. فقط كلاهما يعرف لماذا يجران الدولة إلى هذه الخلاطة. ولا يوجد لأي منهما سجل لائق في عرض الحقائق على الجمهور".