"وأما الأمر الثاني مما حملني على تمني لقائه، فهو ما كنت أسمعه من أهل الحدثان بالمغرب، والأولياء، وذكرت ما قصصته من ذلك قبل. فقال لي (حين التقيته): وأراك قد ذكرت بختنصر مع كسرى، وقيصر، والإسكندر، ولم يكن في عدادهم، لأنهم ملوك أكابر. وبختنصر قائد من قواد الفرس، كما أنا نائب من نواب صاحب التخت، وهو هذا، وأشار إلى الصف القائمين وراءه، وكان واقفاً معهم، وهو ربيبه الذي تقدم لنا أنه تزوج أمه بعد أبيه ساطلمش فلم يلفه هناك، وذكر له القائمون في ذلك الصف أنه خرج عنهم. فرجع إليَّ فقال: ومن أي الطوائف هو بختنصر، فقلت: بين الناس فيه خلاف، فقيل من النبط بقية ملوك بابل، وقيل من الفرس الأولى، فقال: يعني من ولد منوشهر. قلت نعم هكذا ذكروا، فقال: ومنوشهر له علينا ولادة من قبل الأمهات. ثم أفضت مع الترجمان في تعظيم هذا القول منه، وقلت له: وهذا مما يجعلني على تمني لقائه.
فقال الملك: وأي القولين أرجح عندك فيه، فقلت إنه من بقية ملوك بابل، فذهب هو إلى ترجيح القول الآخر. فقلت: يعكر علينا رأي الطبري، فإنه مؤرخ الأمة ومحدثهم، ولا يرجحه غيره، فقال: وما علينا من الطبري؟ نحضر كتب التاريخ للعرب والعجم، ونناظر".
نظرة شاهد عيان
النص الوارد هنا مأخوذ كما من شأن قراء ابن خلدون أن يدركوا، من واحد من فصول سيرته الذاتية، وهو فصل يروي فيه صاحب "المقدمة" طرفاً من اللقاء الذي جمعه بتيمورلنك ملك المغول خلال حصار هؤلاء لدمشق. وهو لقاء كتب عنه الكثير وتساجل فيه كثر، غير أن ما يهمنا منه هنا إنما هو الصورة التي يتركها لدى القارئ. صورة عن تيمورلنك تبدو مختلفة كثيراً عن الصور العديدة والمتناقضة المعهودة عنه. فالحال أن ما من وجه تاريخي جرى التعامل معه بمثل التناقض الذي تم به تصوير تيمورلنك جباراً متوحشاً حيناً، وأميراً يعبق بالحكمة وحب المعرفة في حين آخر. وهي الصورة التي يمكننا استنتاجها مما يرويه ابن خلدون. ولئن كان في مقدورنا الاستناد إلى رواية عالمنا ومؤرخنا العربي الكبير باعتبارها الأكثر موثوقية وربما لكونها صورة يرسمها شاهد عيان، فإن ابن خلدون لم يكن الوحيد الذي "أنصف" الفاتح المغولي.
المبدعون على الخط
فالحقيقة أنه في مقابل كثر من المؤرخين لم يتورعوا حيناً عن الخلط بين تيمورلنك وهولاكو، معتبرين الاثنين من الوحوش في توقهم إلى سفك الدماء، وحيناً عن الخلط بينه وبين جده جنكيز خان، معتبرين إياه من المؤسسين الكبار لتلك الدولة التي سارت بالوسط الآسيوي مراحل عديدة على دروب الحضارة، ضلَّ كثر من المؤرخين طريقهم وكان من بينهم فنانون استهوتهم شخصية تيمورلنك فبنوا انطلاقاً منها أعمالاً ستبدو في نهاية الأمر غير ذات علاقة بالوجه التاريخي الحقيقي. ومن بين هؤلاء كريستوفر مارلو معاصر شكسبير ومنافسه الذي كتب مسرحية "تامرلين العظيم"، زاعماً أنها مستوحاة من شخصية تيمورلنك ليتحدث من خلاله عن شؤون السلطة والحكم في بلده. ولكن من بينهم أيضاً الكاتب الأميركي إدغار آلن بو، الذي كتب رائعة شعرية عنونها بالتحديد "تاميرلان" ("تيمورلنك")، واعتبرت في نهاية الأمر من أجمل قصائده، في وقت بدت فيه، ويالغرابة الأمر، من أكثر الأعمال الفنية التي بقدر ما ابتعدت عن حقيقة الزعيم المغولي كانت قريبة منه ولكن في استجابة لغايات شعرية خاصة، كان من الواضح أن الشاعر والكاتب إنما أراد من خلالها التعبير عن ذاته. فهذه الصورة الأكثر مفاجأة، والأقل شبهاً بالصورة المعهودة لتيمورلنك، كانت تلك التي نجدها في بو، العابقة بالشفافية والرومانسية. غير أن هذه الصورة، تدفعنا حقاً إلى التساؤل حول ما إذا كان صاحب "سقوط بيت آشر" قد درس تاريخ بطله وعرف الفظاعات التي ارتكبها قبل أن يكتب تلك القصيدة؟
فلقد أتى إدغار آلن بو، أحد أكبر الشعراء والروائيين في تاريخ الأدب الأميركي ليكتب عن تيمورلنك وشخصيته، واحدة من أجمل قصائد الأدب الأميركي، فهل تراه كان يعرف حقيقة ذلك البطل، أم أنه كان يبحث عن بطل تاريخي لبطل ابتكره من عنده؟ مهما يكن فإن قصيدة "تامرلان" هذه كتبها بو، خلال مرحلة مبكرة جداً من مساره الأدبي، فهو المولود في عام 1809، نشر في عام 1927، حين كان بعد في الثامنة عشرة من عمره - نشر واحدة من مجموعاته الشعرية الأولى في عنوان "تامرلان وقصائد أخرى"، ما يعني أنه كان يعتبر القصيدة عن تامرلان (تيمورلنك) الأهم بين ما كتبه حتى ذلك الحين. فماذا يقول إدغار آلن بو عن "الطاغية" المغولي في هذه القصيدة؟
اعترافات خريف العمر
بنى بو قصيدته على شكل اعترافات حميمية يدلي بها رجل الحرب الطاغية وهو في خريف العمر وقد شعر أن نهايته قد دنت. وفي تلك الاعترافات المكتوبة في لغة جزلة مليئة بالمشاعر وبالصدق، يكشف تامرلان، للمرة الأولى، عن سر يتعلق به كان حافظ عليه طوال حياته: سر قلب سئم منذ زمن بعيد من ضروب الغرور والكبرياء، وأصناف المجد والعظمة، وبات تواقاً إلى الهدوء والعيش الوديع، بعيداً من هالات التاريخ الكبرى. ولكن أنَّى له ذلك وقدره كان على النحو الذي كان عليه؟
وبعد أن يدلي تامرلان بهذا الاعتراف الذي ينحو لأن يجعل منه ضحية للتاريخ، أكثر منه جلاداً فيه، بمعنى أنه دائماً كان خاضعاً لقدره متألماً من صروف ذلك القدر، تواقاً إلى التحرر منه، ينتقل إلى رواية الخلفية التي حركت فيه حب المغامرة والحرب والأفعال الكبيرة: وهذه الخلفية تتعلق بحكاية حب مبكرة عاشها، تجاه فتاة وكان حباً "حتى الملائكة الطاهرة في عليائها كانت تحسدني على قوته ونقائه". وهكذا تكون كل رغبات الحرب والعظمة قد تسللت إلى فؤاد تامرلان عبر ذلك الحب، إذ وجد نفسه يوماً راغباً في أن يقدم لحبيبته هدية تليق بها، كما تليق بحبه الكبير لها، فقرر أن يقدم إليها إمبراطورية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يوم ماتت الحبيبة
وهكذا بدأ تامرلان غزواته وسيطرته على أجزاء من العالم وفي ذهنه حلم وحيد: أن يعود يوماً إلى حبيبته ليقدم إليها مفاتيح الإمبراطورية. وهكذا، بعد سنوات ومخاطر يعيشها، وبعد أن أصبح - مدفوعاً بحبه - سيداً كبيراً من سادة العالم، يعود إلى عاصمته ليجد أن محبوبته قد ماتت: وهي ربما ماتت بفعل هجرانه لها، وإحساسها الخاطئ أن حبيبها قد تخلى عنها. وهكذا، حتى إذا كان "بطلنا" قد شعر عندئذ أنه فقد الدافع الذي كان يقوده إلى الحرب والمغامرة، فإنه في الوقت نفسه كان تخطى نقطة اللا عودة، ولم يجد أمامه إلا أن يهرب إلى الأمام: فواصل غزواته. من الناحية التاريخية، طبعاً، لا يبدو أن لهذه الحكاية أي ارتباط بالواقع. ومن هنا واضح أن إدغار آلن بو، إنما استخدم شخصية تيمورلنك، كرمز على الحب المطلق، ولكن أيضاً على الجهود المجانية... التي يبذلها المرء، فعل سيزيف وايكاريوس، فلا تقوده إلى حيث كان يريد.
خيبات الحب البشر
والحال إن هذه الفكرة كانت مهيمنة على إدغار آلن بو، خلال تلك المرحلة المبكرة من حياته، التي لم تكن طويلة على أية حال. بل إن الفكرة ظلت مسيطرة عليه مهما نوَّع من كتاباته التي تراوحت بين الشعر الرومانطيقي وقصص الرعب، وحكايات الجن وضروب القسوة، ما جعله حتى الآن واحداً من مؤسسي الأدب الرومانطيقي، وكذلك أدب الألغاز البوليسية في العالم. وبو الذي ولد عام 1809 في بوسطن (ماساتشوستس) ابناً لممثلين جوالين، سرعان ما وجد نفسه يتيماً وهو في الخامسة عشرة، فرباه جون آلن، وهو تاجر تبغ. ولقد عاش بو بعد ذلك حياة بؤس وتجوال لكنها لم تمنعه من متابعة دروسه، بادئاً الكتابة، شعراً ونثراً، في زمن مبكر، متنقلاً من خيبة من البشر إلى خيبة من الحب، معبراً عن ذلك كله في نصوص ظل يكتبها وينشرها حتى وفاته عام 1849.